رواية أعلنت الحرب على قلبي عبر روايات الخلاصة بقلم إسماعيل موسى
رواية أعلنت الحرب على قلبي الفصل الثالث والعشرون 23
ندى
في غرفتها الضيقة التي كانت دائمًا مأمنها من العالم، جلست ندى على طرف السرير، يداها متشابكتان فوق ركبتيها، والارتباك يضرب صدرها كأنه طبول حرب. كان عقلها كخلية نحل مشوشة؛ صور متلاحقة تتزاحم بلا نظام: جدّها الذي همس باسم العريس، جاسم الذي لم يخطر ببالها يومًا أنه قد يراها أكثر من ابنة عم، ثم وجوه كثيرة مرت بحياتها لتترك فيها ظلالًا لا تنمحي—وجه أمها، قسوة شاهندة، اختطافها المفاجئ، وصوت الرصاص الذي كاد أن يطويها إلى الأبد.
كانت تدرك أن الحياة منحتها فرصة جديدة، لكنها أيضًا حمّلتها ثِقلاً لم تعرف كيف تحمله. هل تريد فعلًا أن تُربط حياتها الآن برجل—حتى وإن كان جاسم، الذي لطالما رآها كطفلة؟ أم أنها ما زالت تبحث عن ذاتها الضائعة، عن الحلم البسيط بالحرية، بالسلام، أن تفتح كتابها في الحقول وتذاكر بلا خوف من أن يخطفها أحد أو يضعها في صراع لا ينتهي؟
رفعت رأسها للمرآة، فوجدت عينيها تلمعان بدموع مترددة. سألت نفسها بصوت خافت: هل أنا مستعدة أن أكون زوجة؟ أن أُسلم مصيري لرجل آخر؟
ثم داهمها شعور آخر: ربما الزواج من جاسم هو الأمان الذي تبحث عنه، ربما به ينتهي كل هذا التيه. لكن في أعماقها، كان هناك شيء يقاوم—أمنية قديمة لم تبح بها لأحد: أن تُكمل دراستها، أن تسافر بعيدًا عن ضوضاء العائلة وصراعاتها، أن تُثبت لنفسها أولًا أنها قادرة على اختيار طريقها بنفسها، قبل أن تختار رجلًا تسير معه فيه.
ارتبكت أكثر. الأمان أم الحرية؟ الحب أم الحلم؟
لم تستطع أن تجيب. كل ما فعلته أنها أغمضت عينيها، وأسندت رأسها إلى الوسادة، كأنها تحاول الاحتماء بأحلامها من واقع يضغط على صدرها.ندى، فى تلك اللحظة، كانت أشبه بورقة رقيقة وقعت وسط عاصفة.
جلست فى غرفتها، والستائر مسدلة كأنها جدران تحجبها عن العالم، لكنها لم تحجب عنها زحام الأفكار الذى يطاردها بلا هوادة. كل كلمة قالها الجد أعادت تشكيل عالمها، فتداخل صوت جاسم بنظراته، وهمسات شاهندة الباردة التى لطالما حملت خلف ابتسامتها رفضًا صامتًا لها.
كانت تعرف أن شاهندة لا تراها أهلًا لابنها. لم تكن بحاجة إلى أن تقولها مباشرة؛ فالنظرات تكفى، واللمزات العابرة بين الجُمل أوضح من أى تصريح. تلك السيدة لا تريدها، وربما لن تسامحها إن أصبحت جزءًا من بيتها. كيف يمكن لندى أن تخوض حربًا جديدة داخل جدران بيت آخر، وهى بالكاد تحتمل الصراع داخل بيتها؟
كل ما مرت به مؤخرًا جعلها أكثر هشاشة، وأكثر وعيًا أيضًا بأن الطريق أمامها ليس مفروشًا بالورود. فكّرت: إن وافقت، فهل ستستطيع مواجهة شاهندة يومًا بعد يوم؟ أن تنظر فى عينيها وهى تدرك تمامًا أنها غير مرغوبة؟ وهل سيتغير جاسم حقًا، أم سيتردد حين يقف بين حبّه لها ورضا أمه؟
فى داخلها كان هناك صراع يتناوب بين صوتين:
أحدهما يهمس لها: جاسم هو الأمان. فرصة لتتخلصى من كل الوحدة التى عشتها، لتجدى قلبًا يحميك من غدر الأيام.
والآخر أكثر قسوة: شاهندة ستجعلك تدفعين الثمن، وستذكرين دومًا أنكِ الضيفة غير المرحب بها. ربما يخذلك جاسم، وربما تجدين نفسك غريبة فى بيت جديد كما كنتِ غريبة فى بيتك.
ندى تمنت، للحظة، لو أن الحلم كان أبسط: أن يكون الحب وحده كافيًا، دون أن يتدخل الآخرون، دون أن تتحول المشاعر إلى معركة عائلية. لكنها لم تكن ساذجة؛ كانت تعرف أن فى عالمها، لا يربح القلب وحده، بل هناك دومًا حسابات أكبر من قدرتها على مجاراتها.
سقطت دمعة على كفها المرتجف، وقالت لنفسها: أنا لست نداً لشاهندة... لكن هل يمكن للحب أن يمنحنى القوة لمواجهتها؟ أم سأظل دومًا تلك الفتاة التى لا تليق بابنها؟
جاسم
جلس جاسم أمام أمه، كأنما يواجه جبلًا من الصخر. كان فى عينيه إصرار هادئ، لكن صوته حين نطق بالقرار بدا كحجر ثقيل ألقي فى بئر ساكنة:
ــ "أنا ناوى أتجوز ندى يا أمى."
شهقت شاهندة، ليس من الدهشة وحدها، بل من الغضب الذى تفجّر فى عروقها فجأة. وضعت الكوب من يدها بعنف، ارتطام الزجاج بالمنضدة كان أشبه بصوت كسرة فى قلبها. حدقت فيه طويلًا، وكأنها لا تصدق أن ابنها الذى ربّته على طموحات كبيرة يمكن أن يتحدى وصاياها.
ــ "ندى؟! بنت أخو جوزى؟! هى دى اللى اخترتها تكون مراتك؟"
صوتها ارتفع، انسكبت الكلمات كالسياط، تجرح وتلعن وتسبّ. ظلت تردد أن تلك العائلة لا تجلب إلا المصائب، أن ندى لا تحمل شيئًا من ملامح النساء اللاتى حلمت بهن زوجات لأبنائها.
ــ "كنتِ تبنى فيا آمال كبيرة، يا جاسم! كنتَ هتشرفنى وسط الناس، ترفع راسى... إزاى دلوقتى تجيب لى البت دى وتقول هتتجوزها؟! دى ما تستاهلش تبقى ضُرة حتى للى فى مقامك!"
ضربت بيدها على صدرها، كأنها تتلقى طعنة. لعناتها لم تتوقف: على العائلة التى ربطت مصيرها بهم، على اليوم الذى وافقت فيه أن تكون جزءًا منهم، وعلى اللحظة التى سمحت فيها لابنها أن يتقارب مع بنت لم ترَ فيها إلا العبء والخذلان.
جاسم ظل صامتًا للحظات، وجهه متماسك لكن داخله يشتعل. لم يقاطعها، لم يردعها، فقط تركها تنفجر بكل الغضب الذى خزنته سنين طويلة. كان يعرف أن المواجهة معها لن تكون سهلة، وأن كل خطوة فى طريقه نحو ندى ستشعل حربًا جديدة داخل البيت.
شهقت شاهندة غضبًا من جديد، حدّقت فى جاسم وكأنها تريد أن تقتلع منه الفكرة بعينيها. ارتجف صوتها، لكنه لم يكن ضعفًا، بل قسوة ممزوجة بوعيدٍ صارم:
ــ "اسمعنى كويس يا جاسم... انسَ الموضوع ده كأن ما حصلش. انساه زى ما بننسى الكوابيس أول ما نصحى. لو فضّلت مصرّ عليه، إياك تفتكر إنى هبقى أمك تانى... إياك تتوهم إنى هاعرفك."
كانت كلماتها كالسيف، حادة، قاطعة، لا تحتمل مساومة. أشاحت بوجهها بعيدًا عنه، كأن النظر إليه صار يجرحها، ثم عادت تخاطبه بعينين مشتعلة:
ــ "أنا ربيتك على إيدى، صبرت عليك، ضحّيت عشانك... عشان تيجى فى الآخر ترمينى فى حضن العيلة دى من تانى؟! والله يا جاسم، لو مشيت خطوة فى السكة دى، اعتبرنى مدفونالك."
غُصّة صاعدة من قلبها جعلت صوتها يختنق، لكن الغضب تغلّب على كل شىء. كانت شاهندة تعلم أنها تضرب على أوتار ضعفه، تهدده بخسارة أكثر الروابط عمقًا فى حياته: الأم.
أما جاسم، فظل يواجهها بعينيه، ساكنًا من الخارج، مضطربًا فى داخله. شعر أنه بين نارين: قلبه الذى يدفعه نحو ندى، وأمه التى تهدد بأن تنزع نفسها من حياته إلى الأبد.
حشمت مندور
استفاق حشمت مندور ببطء، كأن وعيه يُنتشل من بئرٍ عميق غارق فى الظلام. أزاح جفنيه المثقلين، فارتسم أمامه سقف منخفض مطلى بالجير الأبيض، تُنيره لمبة باهتة معلّقة بخيط كهرباء رفيع. الهواء كان محمّلاً برائحة دواء ومعقمات، لا تشبه رائحة البارود والدخان التى التصقت بذاكرته.
رفع رأسه بصعوبة، فشعر بوخزة حادة فى كتفه الأيسر، حينها لمح ضمادات سميكة ملفوفة بعناية، بعضها لا يزال ملطخًا ببقع دم جاف. أدار عينيه نحو قدَمه، فوجده مُثبتًا بحزام جلدى فوق لوح خشبى، كأن أحدًا حاول منع الحركة لتلتئم العظام.
كان مستلقيًا على سرير حديدى نظيف بشكل يثير الدهشة وسط هذا المكان؛ غطاء أبيض مطوي بعناية، ووسادة صغيرة تفوح منها رائحة صابون. بجانبه على منضدة خشبية قديمة صينية معدنية وُضع عليها رغيف خبز، قطعة جبن، وزجاجة ماء نصف ممتلئة.
حاول أن يتذكر اللحظة الأخيرة: الدخان، الرصاص، صرخات النساء، الطفل الممدد أرضًا... ثم الارتطام العنيف الذى أسقطه فى العتمة. كان يظن أنه هلك، لكنه الآن حيّ، مخيط الجروح ومربوط الأطراف.
مد يده المرتجفة نحو الطعام، لكن الألم أجبره على التوقف. عندها أدرك أن أحدًا قد أجرى له عملية جراحية، بخيوط وإبر وأدوات لم يرها، شخص ما أنقذه من حافة الموت وأعاد له فرصة جديدة.
أغمض عينيه من جديد، ليس ليستسلم للنوم، بل ليقاوم عاصفة الأسئلة التى اجتاحت رأسه: من الذى عالجه؟ ولماذا؟ وأين بالضبط يقبع الآن؟ داخل الأنفاق... أم فى مكان آخر لم يعرفه من قبل؟
دبّت فى جسد حشمت مندور رغبة عنيدة فى أن ينهض. لم يحتمل فكرة أن يكون مستلقيًا كجثة، ينتظر مَن يقرر مصيره. جذب الغطاء بعيدًا بيده اليمنى، وحاول أن يرفع نصف جسده، لكن الألم انفجر فى كتفه وقدمه كشرارة نار حارقة. عضّ على أسنانه، يتصبب عرقًا باردًا، ومع ذلك واصل المحاولة، يزحف ببطء خارج السرير.
ما إن لامست قدمه المصابة الأرض حتى اهتز جسده وسقط على ركبته، يتنفس بصعوبة. مد يده نحو الجدار الخشن ليستند عليه، وبدأ يتحرك مترًا بعد متر، كمن يفر من قبر ضيق. حين بلغ الباب الخشبى الثقيل ومد يده ليزيحه، ظهر أمامه رجل ملثم، وجهه مغطى بالكامل إلا من عينين لامعتين قاسيتين.
رفع الملثم ذراعيه ليمنعه، دافعًا صدر حشمت للخلف:
ــ ارجع مكانك! لسه ما صحّتش.
اندفع الغضب فى دم حشمت أقوى من الألم. قبض بيده على ملابس الرجل، شدّه نحوه بصوت متقطع لكنه ملىء بالتحدي:
ــ إنت… فاكرنى أسير؟! أنا مش هافضل محبوس!
حاول الملثم دفعه مرة أخرى، لكن حشمت ضربه بكوعه المصاب رغم الألم، فارتطم الجدار بكتفه. تمايل الاثنان داخل الغرفة الضيقة، صينية الطعام سقطت أرضًا وتناثر الخبز والماء. قبض الملثم على كتف حشمت المصاب بعنف، فانفجرت منه صرخة قصيرة لكنه لم يتراجع، بل رفع يده الأخرى ولطم الرجل على وجهه.
تعالت أنفاسهما المتلاحقة، وصوت ارتطام الجسدين بالحائط تردّد فى المكان. أخيرًا دفع الملثم حشمت بقوة أعادته للسرير، ضغط على صدره بكلتا يديه وصاح:
ــ لو ما قعدتش دلوقتى… تموت قبل ما تطلع من الباب!
بقي حشمت ممددًا، صدره يرتفع وينخفض بوحشية، عيناه مشتعلة بالرفض، بينما الملثم يلهث بدوره، يراقبه بثبات. بينهما خيّم صمت متوتر، لا يكسره سوى صوت القطرات المتساقطة من زجاجة الماء المقلوبة على الأرض.
جلس الملثم على الكرسي الخشبي القريب من السرير، التقط أنفاسه بعد الشجار القصير، ثم نظر إلى حشمت مندور بعينين هادئتين هذه المرة، نبرة صوته انخفضت لكنها كانت حاسمة:
ــ إسمعني كويس… وضعك الصحي أخطر مما تتصور. الرصاصة اللي اخترقت كتفك كانت على بعد سنتيمترات من شريانك، ورجلك اتفتحت بشظية دبابة. الأطباء في النفق عملوا المستحيل عشان ينقذوك، ولو كنت اتحركت قبل يوم واحد من دلوقتي كان زمانك في عداد الموتى.
رمش حشمت بعينيه، أنفاسه تخرج ثقيلة، لكنه ظل صامتًا.
تابع الملثم:
ــ إنت كدت تضيّع خططنا بالكامل ليلة الهجوم… لكن بنفس اللحظة كنت سببًا في ضربة كسرت صفوف العدو. المقاومة نجحت، وده بفضل دماغك البارد وقت الرعب، وبفضل قلبك… قلب من حديد.
ارتفع رأس حشمت قليلًا، لمعت في عينيه شرارة اعتزاز مكتوم.
ــ القائد بنفسه، قائد الفصيلة، عايز يقابلك ويتعرف عليك. يمكن تكون عضو فعال بينا، يمكن وجودك يغيّر ميزان كتير.
ساد صمت ثقيل للحظة، لا يُسمع فيه إلا صفير الريح يتسرب من شق صغير في الجدار. ثم مال الملثم للأمام، بصوت أكثر رفقًا:
ــ قبل ما أرحل دلوقتي… محتاج حاجة؟
ابتسم حشمت نصف ابتسامة ساخرة، رفع يده المرتعشة قليلًا وقال:
ــ اشعل لي سيجارة.
تردد الملثم لثوانٍ، ثم أخرج علبة صغيرة من جيبه، أشعل له سيجارة ووضعها بين شفتيه. تصاعد الدخان في الغرفة المعتمة، يختلط برائحة الدم والدواء.
قبل أن يغادر، التفت الملثم، وصوته بدا وكأنه يحمل شيئًا أكبر من مجرد فضول:
ــ قولي يا حشمت… إنت ليه اخترت تفضل؟ ليه اخترت المواجهة بدل ما تهرب زى ما كل الناس ما بتهرب ؟ أطلق حشمت مندور زفرة طويلة، رفع السيجارة إلى فمه وسحب نفسًا عميقًا ثم نفث الدخان في وجه الملثم بلا اكتراث، كأنه يطرده مع كلماته:
ــ "كنت بهرب.. انا طول عمرى كنت بهرب
لم يزد، ولا حاول أن يشرح. عيناه كانتا زجاجيتين، جامدتين، وكأنهما تحجبان ما لا يريد لأحد أن يراه. الملثم هز رأسه بصمت، كأنه استوعب أن الرجل أمامه لن يعطي أكثر مما قال، ثم استدار ليغادر.
وحده حشمت ظل غارقًا في دخان سيجارته، يحدّق إلى سقف الغرفة الخافتة الضوء. الشرود ابتلع ملامحه، وصوته الداخلي راح يجلد ذاكرته:
"أنا جيت عشانها… عشان وشها اللي ما غابش عني ليلة واحدة. ما كانش في بالي غير إني ألاقيها. لكن القدر زقني وسط نار مش بتطفي، وسط وحوش بوجوه بشر
أغمض عينيه بقوة، كأنما يريد محو صور الدم والجثث، لكن صور الفتاة عادت تطرق ذاكرته بنفس الإصرار. لم يكن يعرف هل هي السبب الوحيد اللي يستحق يكمّل عشانه، أم أنها مجرد وهم يحتمي به من الجنون الذي يحيط به.
صوت خطوات الملثم البعيد تلاشى في الممر، وبقي حشمت وحده مع سيجارته، مع سره الثقيل الذي لن يعرفه أحد.
بعد أن انطفأت الخطوات خلف الباب وأغلق الملثم عليه، جلس حشمت مندور ساكنًا لثوانٍ، يراقب الدخان المتلاشي في الهواء كأنه يرسم له طريقًا خفيًا. ثم، بلا تردد، أطفأ السيجارة على حافة السرير ونهض واقفًا رغم الألم الذي ينهش كتفه وقدمه.
وجهه كان مشدودًا بعنادٍ قاسٍ، عيناه تقدحان شررًا:
"مش هكون تابع… مشيت عمري كله براسي، مش هبدأ دلوقتي أسمع أوامر حتى لو من اللي بيقولوا على نفسهم مقاومة."
اقترب من الجدار، لامس بيده الخشنة خطوط الطوب والفراغات، يتفحّصها بعين الصقر. التقط صوتًا خفيفًا لتدفق الهواء من مكان بعيد، فابتسم ابتسامة واثقة. حشمت لم يكن من نوع الرجال الذين يُحبسون بسهولة؛ هو الذي صنع حياته بالمخاطرة، وهو الذي علّم نفسه أن كل قيد له مفتاح، ولو كان المفتاح في أنفه وأذنه وعيونه وحدسه.
تحرّك ببطء أولًا، ثم بخفة رجلٍ يعرف كيف يختفي وسط العتمة. كل تفصيلة كان يقرأها: آثار الأقدام على الأرض الطينية، رطوبة الجدران، اتجاهات الهواء التي تغيّر مسار خصلات شعره. كان يختبر النفق كما يختبر القناص بندقيته.
التفرعات بدت معقدة، كمتاهة وُضعت عمدًا لإرباك المتسللين. لكن حشمت، بعين يقظة وذاكرة حديدية، ربط بين الروائح والهواء وصوت التنقيط في بعض الممرات. كل تفصيلة صغيرة تحولت عنده إلى خيط يقوده إلى الباب المجهول.
توقف عند مفترق طرق، أدار رأسه مثل ذئب يستشعر الفريسة، ثم ابتسم بخبث:
ــ "الهوا هنا أرق… يعني في مخرج."
تحامل على قدمه المصابة، تابع سيره حتى لمح خيطًا واهيًا من الضوء يتسلل عبر شق في نهاية الممر. اقترب أكثر، وضع أذنه على الجدار، سمع أصوات بعيدة: عربات، خطوات متفرقة… عالم الخارج ينتظره.
بيديه القويتين أزاح بعض الصخور المتراكمة، وفتح لنفسه مخرجًا ضيقًا. زحف حتى لامست أنفاسه هواء الليل الحر. حين خرج، أدار رأسه للخلف لحظة واحدة، نظرة حادة وحاسمة، ثم بصق على التراب هامسًا:
ــ "أنا ما بتساقش… ولا يوم اتسقت."
ثم اختفى في العتمة، كأن النفق لم يحتجزه قط.
يتبع...
