📁

رواية أعلنت الحرب على قلبي الفصل الثاني والعشرون 22 بقلم إسماعيل موسى

رواية أعلنت الحرب على قلبي عبر روايات الخلاصة بقلم إسماعيل موسى

رواية أعلنت الحرب على قلبي الفصل الثاني والعشرون 22 بقلم إسماعيل موسى

رواية أعلنت الحرب على قلبي الفصل الثاني والعشرون 22

كانت عودة ندى إلى بيت أسرتها أشبه بالرجوع إلى مكان تعرفه جيدًا، ومع ذلك بدا غريبًا عنها. القرية غارقة فى سكون المساء، والحقول تمتد خضراء حتى الأفق، كأنها تذكّرها بما فقدته أكثر مما تمنحها طمأنينة.


استقبلها الجد عند العتبة، شيخٌ مهيب، تقوس ظهره من السنين، لكن عينيه ما زالتا تحملان قسوة الأرض وصلابتها. فتح ذراعيه لها، ضمها إلى صدره، وتردد صوته الجهوري:

ــ "الحمد لله على السلامة يا بنتي."


أعمامها اجتمعوا حولها، أصواتهم متداخلة بين الأسئلة والدهشة والترحيب، الأطفال الصغار يركضون بين الأرجل، والنساء يتهيأن لإعداد وليمة على عجل كعادة القرى فى استقبال الغائبين.


لكن ندى، وسط كل هذا الضجيج، شعرت بفراغ قاسٍ ينهش قلبها. ابتسمت مجاملة، أجابت عن الأسئلة بكلمات مقتضبة، لكن عينيها ظلتا تبحثان عن شيء مفقود. كانت تعرف أن بيتها ليس خاليًا، وأن الدم يحيطها من كل اتجاه: جدها، أعمامها، أبناء العم. ومع ذلك… بدا لها أنها يتيمة.


اليُتم لم يكن بسبب موت أبويها فحسب، بل بسبب ذلك الشعور بأن الروابط الحقيقية انقطعت منذ زمن. جدها قاسٍ فى هيبته، أعمامها منشغلون بأعمالهم وصراعاتهم الصغيرة، والبيت الكبير الذى ارتفعت ضحكاته فى الماضي صار الآن باردًا، يردّد الصدى أكثر مما يردّد الحكايات.


فى تلك الليلة، جلست ندى وحدها قرب نافذة الغرفة التى خصصت لها. كانت تسمع أصوات الاحتفال فى الفناء، رنين الأكواب، ضحكات الصغار، حوار الكبار عن الزراعة والرزق. ومع ذلك، بدا لها كل شيء بعيدًا، كأنها تشاهده من خلف زجاج سميك.


وضعت رأسها على كفها، ومرت صورة حشمت مندور أمام عينيها. الرجل الذى أوصلها إلى هنا، المجرم الذى اعترف بنفسه أنه مطارد، لكنه لم يتردد أن يضعها فى قلب بيتها ثم يرحل. المفارقة كانت تمزقها: مجرم مجهول منحها شعور الأمان أكثر من أسرتها الكاملة


رفعت عينيها إلى السماء الداكنة، والنجوم المتناثرة، وهمست لنفسها:

ــ الصدفه وحدها هى التى اوقعتها فى طريق حشمت مندور

حشمت مندور وابتسمت ندى بسخريه الذى انقذها

لم تفهم ندى ابدا الدوافع التى دفعت حشمت مندور للتدخل لأنقاذها ،كل ما تعرفه انها مدينه بحياتها لهذا المجرم وحين يأتى وقت دفع الثمن لن تتأخر 


في غرفتها، حين هدأ صخب الدار قليلًا وتوقفت الأقدام عن الصعود والهبوط، جلست ندى عند طرف سريرها، عيناها معلّقتان بالجدار لكنها لم ترَ شيئًا. كل ما كان يلحّ عليها هو تلك النظرات.

نظرات جاسم، التي لحقت بها منذ لحظة دخولها البيت. لم تكن نظرات عادية: لم تحمل صراحة العتاب ولا وضوح الترحيب، إنما شيء رمادي بينهما، غامض، يثقل صدرها.


أعادت المشهد عشرات المرات داخل عقلها، تحاول أن تضع له تفسيرًا. أكان يراقبها كابنة عم ضائعة ثم عادت؟ أم كذنب عالق لا يعرف كيف يغفره؟ أم كمسؤولية يريد أن يتنصل منها؟


الذاكرة خانتها حين حاولت أن تستدعي تفاصيل دقيقة من عينيه. مرة تراهما صارمتين كعيون الجد، ومرة لينتين على نحو لم تعرفه من قبل. تارة يبدوان وكأنهما يحملان أسئلة لا يريد أن ينطق بها، وتارة يبدوان كأنهما إعلان صامت بأنه كان هناك، يبحث عنها، ولم يجدها.


رفعت يديها إلى وجهها، تمسح دمعة سالت بلا وعي. ما الذي أراد جاسم أن يقوله؟ ولماذا شعرت وكأن نظراته كانت تحمل شيئًا أعمق من مجرد قلق عابر؟


تكوّر قلبها في صدرها. الخوف لم يكن من المجرمين ولا من الحقول المظلمة التي جُرّت منها، بل من هذا الغموض الذي يربطها فجأة بجاسم. غموض يطاردها حتى في وحدتها، وكأن نظراته لم تترك لها مخرجًا.


      شاهنده 


في بيتها، جلست شاهندة أمام المرآة، تمشط شعرها بحركة عصبية، حين جاءتها المكالمة القصيرة. الصوت في الطرف الآخر كان يخبرها ببرود أن ندى قد عادت إلى بيت العائلة بخير وسلام.


توقفت يدها في الهواء، وسقط المشط من أصابعها على الأرض. لوهلة لم تصدق ما سمعت. عادت؟!

شعرت كأن الغرفة ضاقت عليها فجأة، الهواء يثقل صدرها، والأرض تدور من تحتها. كانت قد أعدّت نفسها لتعيش مطمئنة أن تلك الصفحة طويت إلى الأبد، فإذا بالخبر يعيد كل مخاوفها القديمة ويشعل الغضب في عروقها.


نهضت شاهندة بخطوات متوترة، تدور داخل الغرفة الصغيرة كما لو كانت تبحث عن منفذ لهروب مستحيل. كلماتها خرجت بصوت مرتفع، رغم أنها كانت وحدها، البنت دى شيطانه طلعتلى من غير مقدمات 


في تلك اللحظة أحست أن كل ما بنته من آمال وخطط ينهار دفعة واحدة. صورة جاسم مرت بخيالها، وتخيلته يلتفت إلى ندى بعينيه كما فعل قديمًا، ذلك الوميض الذي لم تفهمه يومًا صار يطاردها كظل. قبضت على صدرها، والغيرة ممزوجة بالغيظ جعلتها عاجزة عن الجلوس أو حتى التفكير بهدوء.


الغرفة التي كانت دائمًا مرتّبة بدت كأنها تضيق بجسدها، وبداخلها اشتعلت نار لم تجد لها سبيلًا للخروج سوى كلمات مقطوعة، أنفاس حادة ثم اتصلت بنوح وحملته مسؤلية ما حدث واتهمته بالفشل ثم تركته وهى تعرف أن نوح لن يصمت


________


وسط الأجواء المثقلة بظلال الغضب والقلق بعد عودة ندى، جلس جاسم قرب جدّه في الصالة، حيث كان الشيخ الكبير متكئًا على أريكته، عيناه الغائرتان تراقبان الصمت أكثر مما تراقبان الناس.


اقترب جاسم، انحنى قليلًا وهمس بصوت خافت، كأنه يخشى أن يسمعه أحد من خارج الجدران:

ــ جدو… عايز أتكلم مع حضرتك في حاجة.


رفع الجد حاجبيه، لم يعلّق بكلمة، اكتفى بنظرة ثابتة تدعو جاسم للاسترسال. عندها جمع جاسم أنفاسه المتقطعة وقال بتردد، لكنه كان حاسمًا في جوهر كلامه:

ــ أنا… عايز أطلب إيد ندى.


ساد صمت ثقيل. لم يكن من النوع العابر، بل صمت يزن كل كلمة ويختبر صدقها. جاسم شعر أن قلبه يطرق صدره بعنف، وكأن جدّه يسمع دقاته.


أخيرًا قال الشيخ بصوت منخفض لكنه نافذ:

ــ خلّي الموضوع سر بيني وبينك دلوقتي. ما يخرجش برّه لحد.


أومأ جاسم برأسه، لم يجد ما يقوله، بينما تملكه مزيج غريب من الراحة والخوف في آن واحد.


ثم التفت الجد إليه فجأة، كأنه يقلب المعادلة بسؤال واحد اخترق صمتهما:

ــ أمك… تعرف برغبتك دي؟


جاسم تجمّد مكانه. لم يتوقع السؤال، وكأنه سهم خرج من حيث لا يدري. أطرق رأسه، فكر للحظة طويلة، ثم رفع عينيه ببطء وقال بصوت خافت:

ــ … لا.


عندها عاد الجد إلى صمته، وكأن الصالة بأكملها دخلت في اختبار جديد، لا يعلمه سوى الشيخ وجاسم.


ارتسمت على ملامح الجد قسوة لم يرها جاسم منذ زمن، كانت نظراته عميقة كأنها تفتش في أعماقه وتفكك دواخله، ثم عاد وأسند ظهره إلى الأريكة ببطء، كأن الثقل الذي يحمله أكبر من كتفيه.


دخل في صمته الطويل، بينما جاسم ينتظر كلمة، أي كلمة تريحه أو تهزمه. لكن الجد لم يتعجل، بل ترك الصمت يختبر حفيده. كان في داخله صراع مرير: من جهة يرى إصرار جاسم وملامح الصدق التي لم يخطئها طوال عمره، ومن جهة أخرى يعرف أن خطوة كهذه كفيلة بتفجير كل ما تبقى من هدوء هش داخل العائلة، وخاصة مع شاهندة.


تسللت فكرة قاتلة إلى ذهنه: "لو علمت شاهندة، لن تترك الأمر يمر. ستعتبر أن ندى سرقت ابنها منها." ثم أغمض عينيه، شعر أن قلبه يئن، يتذكر سنوات طويلة من السعي إلى الحفاظ على ترابط هذه العائلة، وكيف أن كلمة واحدة غير محسوبة كفيلة ببعثرة كل شيء.


أخيرًا قال بصوت متثاقل، جاف، وكأنه يزن كل حرف:

ــ جاسم… اللي بتفكر فيه مش سهل. مش ندى بس اللي هتتأثر… العيلة كلها هتتهز.


ارتجف قلب جاسم عند سماع الجملة، لكنه تشبّث بالصمت، لم يتراجع. كان الجد يراقبه، يبحث عن أي علامة ضعف، فلم يجد سوى إصرار لم يره فيه من قبل.


تنهد الجد ببطء، ثم أضاف بنبرة فيها مزيج من المرارة والإقرار:

ــ هتتحمل اللي ممكن يحصل لو الكلام دا طلع للنور؟


ظل جاسم محدقًا فيه بعينين مشتعلة، ثم هز رأسه، بصوت ثابت:

ــ أتحمل.


حينها شعر الجد أن الصراع في داخله لم يُحسم، لكنه ترك بابه مفتوحًا. لم يقل نعم، ولم يقل لا. فقط ترك الصمت يعود ليحكم المشهد من جديد، صمت أثقل على قلب جاسم من أي رفض صريح.


جلس الجد في الصالة بعد أن انفضّت الضوضاء، وساد البيت سكون ثقيل لا يقطعه سوى أنفاس متقطعة وأصوات أواني بعيدة في المطبخ. نادى بهدوء:


ــ ندى… تعالي اقعدي جنبي يا بنتي.


اقتربت بخطوات مترددة، وجلست إلى جواره، متحفزة كعادتها حين يستدعيها بصوت منخفض يحمل ما يشبه الغموض. حدق فيها الجد طويلًا، عيناه تخترقان ملامحها، يقرأ توترها كما لو كان كتابًا مفتوحًا.


قال بصوت بدا عاديًا، لكن تحته الكثير من القصد:

ــ يا ندى… في عريس متقدملك.


انتفضت بداخلها، وشعرت كأن قلبها يسقط بين ضلوعها. لم تنتظر حتى تسمع اسمه، بل هزت رأسها سريعًا وقالت بحدة مكتومة:

ــ لأ… مش موافقة.


ابتسم الجد، ابتسامة صغيرة مشوبة بدهشة ساخرة، ثم انحنى قليلًا نحوها وهمس:

ــ بترفضي قبل ما تعرفي مين هو؟


ترددت نظراتها المرتبكة، وابتلعت ريقها بصعوبة. لم تجد ردًا، فقط صمت ثقيل احتبس في حلقها. عندها اقترب الجد أكثر، خفض صوته كأنه يكشف سرًا، وهمس بجملة واحدة غيرت ملامحها:

ــ اللي متقدملك… دكتور جاسم، ابن عمك.


تسمرت ندى في مكانها، كأن الأرض انسحبت من تحت قدميها. اختنقت أنفاسها، ارتجف قلبها، ولم تستطع أن تجيب أو حتى تلتقط الكلمات لتعيدها إلى عقلها. ارتباك عارم اجتاحها، لم تعد قادرة على الجلوس أكثر.


فجأة نهضت واقفة، بعينين غارقتين في الدهشة والخوف، ثم همست بكلمة مقتضبة لا تُسمع، واستدارت مسرعة نحو السلم. خطواتها كانت هروبًا أكثر منها حركة عادية، حتى وصلت غرفتها وأغلقت الباب خلفها، تسند ظهرها إليه، محاصرة بكل ما أثاره هذا الخبر.


                      حشمت مندور


تراجع حشمت مندور خطوة بخطوة، عيونه مثبتة على خطوط النيران الممتدة أمامه. الرصاص يتطاير حوله كالشرر، يضرب الجدران المنهارة ويثير غبارًا خانقًا. لم يكن انسحابًا هروبًا، بل حركة محسوبة، كل خطوة محسوبة بالثواني، وكل التفافة جسدها ذاكرته الطويلة في المواجهات.


بينما يلتصق بظل جدار نصف مهدم، دوى انفجار مدوٍّ أطلقته دبابة في الطرف الآخر من الحارة، فاهتزت الأرض تحته كأنها تنشق. ارتفعت سحابة كثيفة من الركام، وانهارت شرفة قديمة، تساقطت حجارتها على مقربة من رأسه. أدار جسده بسرعة، متراجعًا إلى زقاق جانبي، يسحب معه بندقيته، يلتقط أنفاسه المتقطعة.


لكن ما قطع تفكيره لم يكن الرصاص، بل الصرخات التي بدأت تشق السماء المظلمة. أصوات نساء يصرخن من داخل البيوت، وأطفال يختبئون تحت الأثاث، أصوات رقيقة مذعورة تذيب أقسى القلوب. كان يسمع ارتطام الأبواب الخشبية بقبضات الجنود، بكاء متقطع يعلو مع هدير المحركات الثقيلة.


ارتجف داخله شيء لم يعتده؛ ليس خوفًا، بل غضبًا ناريًّا يتصاعد مع كل صرخة تمر بأذنه. ضغط على أسنانه بقوة، همس بين نفسه بغل مكتوم:

ــيا ولاد الخنازي_ر أنتم بتقتلو بدم بارد ؟


زفر دخانًا متخيلًا من صدره، كأنه يبتلع الغضب بالنيران، ثم انحنى يتسلل عبر الممرات الضيقة، يختفي حينًا ويظهر حينًا آخر، متخذًا من الانهيارات ملاذات مؤقتة، ومن الظلام رداءً يحميه. كان يعرف أن بقاءه في مرمى الرصاص المباشر انتحار، لكنه في الوقت نفسه لم يرد أن يوليهم ظهره بالكامل.


كلما توغل داخل الحارات العميقة، ظل الصدى يلاحقه: صوت الأطفال وهم يصرخون، والنساء يلهجن بالاستغاثة. كان كأن هذه الأصوات تدق على جمجمته، تخلط بين ماضيه وحاضره، بين ما فرّ منه طوال حياته، وبين ما يجبره اليوم على المواجهة.


تسمّر حشمت مندور في مكانه، نصف جسده خلف جدار محطم، عيناه متسعتان لا تفوتان مشهدًا واحدًا مما يحدث أمامه. كان الطفل لم يتجاوز العاشرة، يختبئ وراء ساق أبيه، والاثنان واقفان وسط الركام كأنهما بلا مفر. جندي مموه يقترب بخطوات ثابتة، سبابته مشدودة على زناد بندقيته. الأب رفع يده عاليًا، يصرخ بكلمات غير مفهومة وسط الضوضاء، يحاول أن يحمي صغيره بجسده النحيل.


لكن الرصاصة خرجت ببرود قاتل، اخترقت صدر الأب وأسقطته أرضًا. صرخة الطفل شقت الليل قبل أن يسقط هو الآخر، رصاصة أخرى مزقت جسده الصغير. اتسعت عينا حشمت، تجمد للحظة، قلبه ينقبض كأنه خُنق بيد من حديد. لم يكن هناك وقت حتى للبكاء، فالتعاقب كان أكثر وحشية مما تخيل.


سرب الدبابات واصل تقدمه، جنازيرها الحديدية تدوس على الجثتين، تسحق العظام كما تسحق الحصى. لم يلتفت الجنود وراءها، كأن ما داسوه ليس إلا حجارة على الطريق. الغبار ارتفع كسحابة خانقة، امتزجت رائحة الدم بالبارود، وامتد صدى الحديد يطحن اللحم فى أذن حشمت كصفير جهنمي لا ينتهي.


وفجأة، اخترق كل ذلك صوت مختلف… صوت امرأة. خرجت من بين البيوت المهدمة، شعرها منكوش وثوبها الممزق يتطاير مع الريح، عيناها جمرتان من الفزع. ركضت بكل ما تملك من قوة نحو الجثتين، لا يردعها الرصاص ولا هدير المحركات. وحين ارتمت فوق جسد زوجها ثم ضمت طفلها الصغير الملطخ بالدماء، خرجت منها صرخة مدوية، صرخة هزت قلب حشمت كما لم يهتز من قبل:


ــ "شهداء…! شهداء…!"


كانت الكلمة تشق الليل وتخترق الدخان، تُقال بإصرار يائس، بنغمة امرأة رأت الموت بعينيها لكنها ترفض أن تعطيه الانتصار.


في تلك اللحظة، شعر حشمت مندور أن الأرض كلها تهتز تحته، ليس من الدبابات، بل من الغضب الذي اشتعل في صدره. أصابعه تحركت لا إراديًا نحو زناد بندقيته، أنفاسه تحولت إلى لهاث قصير، والعرق البارد ينزلق من جبينه. لم يعد يسمع شيئًا سوى تلك الكلمة تتردد داخله… "شهداء".

اندفع الجنود نحو المرأة، كانوا يتحركون كقطيع مدجج بالسلاح لا يرى في الطريق سوى عوائق يجب إزالتها. صرختها ما زالت تتردد في الأجواء حين أمسك أحدهم بسلاحه وعدّل من وضعه، بلا تردد ولا حتى التفاتة شفقة. أطلق النار كما لو أنه يطرد غرابًا أزعجه أو يركل حجرًا أعاق خطواته.


ارتج جسدها للحظة، ثم سقطت فوق زوجها وطفلها، ذراعاها ما زالتا ممدودتين تحتضنهما، وعيناها المفتوحتان تحدّقان في الفراغ. لم يتوقف الجندي عند المشهد، مرّ بجوارها بخطوة عسكرية باردة، كأن شيئًا لم يحدث، كأنها لم تكن أكثر من غبار يعترض سير المعركة.


من خلف الركام، كان حشمت مندور يراقب، وعروقه تكاد تنفجر من فرط ما يجتاحه. قبضته على بندقيته تزداد قوة حتى أوجعته، أنفاسه قصيرة، حارقة، ووجهه يتصلب كالصخر. لم يعد يسمع سوى هدير الدم في رأسه، ولم يعد يرى إلا المشهد متكررًا أمام عينيه: رجل يسقط… طفل يتبعه… امرأة تُقتل بدم بارد كأنها لا تساوي شيئًا.


تزلزل داخله شيء لم يعرف له اسمًا، مزيج من الغضب والعار والنقمة، شعور أن الصمت بات خيانة، وأن بقاءه مختبئًا لم يعد إلا هروبًا جبانًا. كتم أنفاسه لحظة، ثم رفع رأسه قليلًا نحو السماء الرمادية وكأنه يبحث عن أي معنى، لكن كل ما ارتد إليه كان الفراغ.


في صدره اشتعلت نار لم يعد يسيطر عليها، نار صاخبة تدفعه دفعًا، وتصيح في داخله: "كفى…! كفى…!"


شدّ حشمت مندور على بندقيته، وعيونه مسمّرة على الجندي الذي أطلق النار على المرأة كأنه قد حفر صورته في قلبه. لم يعد يرى غيره، لم يعد يسمع غير دوي الرصاص الذي سبق وأن أنهى حياتها. كان داخله قرار صارم لا عودة عنه: ذلك الجندي يجب أن يسقط، ولو كان ثمنها حياته.


انطلق من خلف الركام فجأة، جسده كالسهم، يركض في الطريق المفتوح حيث الموت يتربّص من كل زاوية. خطاه سريعة لكن متعرجة، يغيّر اتجاهه كل لحظة، يميل بجسده يمينًا ويسارًا، ينزلق أرضًا ثم ينهض، كي يتفادى وابل الرصاص الذي انطلق نحوه كالمطر الأسود.


رصاص العدو ينهال عليه، يصفّر فوق رأسه ويضرب الأرض حول قدميه، والدبابات من بعيد تقذف القذائف العمياء، فتهتز الأرض تحت قدميه وتتناثر الحجارة والتراب كالأمواج المتكسّرة. لكن عيناه لم تفقدا الهدف، ثابتة على الجندي الذي بدأ يلتفت بدهشة، كأن وحشًا خرج له من قلب الجحيم.


ركض حشمت أقرب وأقرب، كل عضلة في جسده تصرخ، وكل نفس يخرج من صدره حارقًا، لكنه لم يتوقف. لم يفكر في النجاة، لم يفكر في الغد، كان كل ما في ذهنه أن يقتص، أن يزرع الرعب في قلب من قتل بدم بارد، ولو كان ذلك آخر ما يفعله.


ارتجّت الأرض فجأة تحت هدير الدبابات، وفجّر الصمت الرهيب انفجارٌ مدوٍّ اخترق صفوف العدو. لهبٌ هائل ارتفع من أسفل أول دبابة في السرب، وارتفع عمود دخان أسود غطّى السماء. ارتجّت بقية الدبابات وتوقفت لوهلة، ثم دوّى صراخ الجنود داخل عرباتهم:


ـ "كمين! كمين!"


ومن خلف الركام والأزقة الضيقة، انطلقت القذائف المضادة للدروع. قذائف الـRPG راحت تنهال من كل جهة، تطرق أجساد الحديد وتفجّرها كعلب صدئة. النار تشتعل، واللهيب يلتهم، والدخان يحجب الرؤية، والجنود يركضون مذعورين، يبحثون عن ساتر في وسط جحيمٍ لا يعرفون من أين يأتي.


وسط تلك الفوضى، كان حشمت مندور يتحرك كالطيف، يتسلل بين النيران والدخان، كأنه منبتّ عن قوانين الموت. لم يكن في قلبه إلا اسم واحد، صورة واحدة، ذلك الجندي الذي أسقط المرأة كأنها لا شيء.


رآه أمامه، واقفًا في ذهول، يحاول أن يوجه سلاحه، لكن قبل أن يتمكن، اندفع حشمت نحوه. أطلق رصاصة أولى أصابت صدره، ثم انقض عليه ليُجهز عليه بلا رحمة بيديه العاريتين 

الدم نضح على يديه، لكن الغضب لم يخمد. التفت إلى الجنديين الآخرين الذين أطلقوا النار على الطفل ووالده. كانا يحاولان الاحتماء خلف دبابة محترقة، لكن حشمت لم يمنحهما فرصة. رشق الرصاص بلا تردد، فأصاب الأول في عنقه فسقط يتخبط في دمه، أما الثاني حاول الردّ، لكن حشمت تقدم بخطوات ثابتة وأطلق عليه رصاصة أنهت حياته.


كان الدخان يلف المشهد كله، وأصوات الانفجارات تتعالى، لكن قلب حشمت مندور لم يعرف الخوف تلك اللحظة. شعر أن النار من حوله امتداد لناره الداخلية، وأن الدماء التي سالت أمامه لم تكن إلا قصاصًا مؤجلاً جاء موعده الآن ،كان الرصاص المنطلق من الازقه يحاول ان يوفر له الحمايه

خلال انسحابه السريع تلقى حشمت مندور رصاصه فى كتفه لكنه واصل الانطلاق حتى اختفى خلف جدار وقبل ان يبتلع انفاسه دكت قذيفة دبابه المنزل بأكمله فوق رأسه تدحرج حشمت مندور مبتعد عن الهدم وارتفع الغبار ليحجب كل شيء ،زحف حشمت مندور بين الانقاض المتراكمه يغطية التراب لم يكن يشعر بقدمه ولا كتفه ،اتكاء على جدار مهدم وضع البندقيه فوق قدميه وأخرج سيجاره اشعلها بصعوبه

كان يعرف أن لا مكان للهرب وان موته الوشيك لن يستغرق سوى لحظات، رأى الطيارات المسيره تحلق فى السماء ،نفخ حشمت مندور دخان سيجارته ،احصى الرصاصات المتبقيه

إذآ كانت قذيفة دبابه أو رصاصة جندى الموت وأحد تنهد بصعوبه وزفر الدخان ولمست يدة الدماء التى سالت منه ثم اطلق ابتسامه ساخره ،اخدت منهم سته امال بيقولو الحرب معاهم صعبه ليه ؟

سمع صوت قائد الكتيبه يبرطم بصوت صارخ كان على مقربه منه ،ثم انطلقت قذيفه أخرى من بين الركام اوقفت السرب عن الحركه

تعالى من هنا يا زلمه ___

كان صوت ضعيف هامس بين الركام يلوح لحشمت مندور

حاول حشمت مندور ان يتحرك لكن قدمه عاندته مما اضطره للزحف خمس خطوات أخرى وأخرى ثم جذبته يد قويه تحت الانقاض.

يتبع...

رواية أعلنت الحرب على قلبي الفصل الثالث والعشرون 23 من هنا

رواية أعلنت الحرب على قلبي كاملة من هنا

روايات الخلاصة ✨🪶♥️
روايات الخلاصة ✨🪶♥️
تعليقات