رواية ما أفسدته الأنثى الأولى تعوضه الثانية عبر روايات الخلاصة بقلم دينا النجاشي
رواية ما أفسدته الأنثى الأولى تعوضه الثانية الفصل السادس 6
"يارب طلّعه من قلبي، أنا تعبت ومبقتش قادرة أتحمّل."
في تلك اللحظة عاد إسلام ليأخذ مفاتيحه التي نسيها، لكن وقع سمعه على كلماتها... تجمد مكانه للحظه، فتساقطت دموعه رغماً عنه، وانسحب سريعاً إلى غرفته. شعر أن قلبه يوشك أن ينفجر لأول مرة، وأنه في حاجة لأن يصرخ أو يبكي ليُفرغ ما بداخله. تسلل إليه ندمٌ قاسٍ على اختياره الأول، لكنه كان غارقاً دائماً في انشغاله، فلم يري سلوكها المنحل.
.....
اما عن رغد رآها الآن منكسرة، وقد انكشف أمامه سلوكها الذي انجرف نحو حبٍ ، فزاد ألمه. توضأ، ووقف بين يدي الله، وصلى ركعتين شاكرًا أنه أنار بصيرته. أدرك أخيراً الفارق بين من أحبته بشده ورغم ذلك لم تُظهر له يومًا هذا الحب، وبين الأخرى التي صدقها، وكذّب شقيقه وسنده في هذه الحياه.
......
عند معتصم كان يسير بين الزرع، يستنشق عبير الطبيعة ويستمتع بخضرتها التي طالما أراحت قلبه. أطلق تنهيدة عميقة وكأن الأرض كلها تحتضنه. وبينما هو شارد الفكر، اخترق أذنه صوت صراخ متقطع يعلو شيئًا فشيئًا:
— "عاااااا الحقوني!"
ارتبك واتجه راكضًا نحو مصدر الصوت، وما إن اقترب حتى وقعت عيناه على فتاة تركض مذعورة، وخلفها كلب صغير يقفز في مرح، يظن أنها تشاركه اللعب.
وقف معتصم مندهشًا للحظة، ثم انفجر ضاحكًا حتى اغرورقت عيناه بالدموع من الموقف . لكن الفتاة، حين لمحته يضحك بدلًا من أن يساعدها، صرخت بصوت عالٍ يرتجف:
— "الحقني بالله عليك! هيعضني!"
معتصم بضحك :
— مش قادر… (وعاد يضحك بصوت أعلى)
آية وهي تصرخ بخوف وتركض:
— ينهارك أبيض! خلّصني بقى!
وأخيرًا استطاع أن يتمالك نفسه، فتقدم وأبعد الكلب الصغير جانبًا. جلست آية على الأرض تلهث محاولة تنظيم أنفاسها، بينما معتصم يعض شفته محاولًا كتم ضحكاته، لكنها لمحت ابتسامته المخبأة فأردفت بغيظ:
— متكتمهاش… اضحك يا خويا!
معتصم من بين ضحكاته:
— أنا آسف… بس شكلك كان فظيع الصراحة.
آية بكسوف وهي تمسح العرق عن جبينها:
— هو مفيش مرة تشوفني فيها غير وانت بتضحك عليا؟
معتصم بابتسامة يحاول التماسك:
— معلش… نصيبك كده.
آية بابتسامة محرجة تحاول تغيير الموضوع:
— هه… عادي، وهعديها عشان الملخصات اللي عملتها. بس المرة الجاية لو ضحكت عليا… هزعلك، وأنا زعلي وحش على فكرة.
ابتسم معتصم وهو يلمح كسوفها ومحاولتها الهروب من الإحراج:
واردف بلطف: طيب وزعلك بيبقا عامل إزاي؟ عشان آخد بالي.
ارتبكت آية ولم تعرف بماذا تجيب، ثم أردفت بخجل:
: أحـم… بزعل وبخاصم. اسأل بابا، مرة زعلت منه وخصمته يومين كاملين لحد ما هو اللي صالحني.
معتصم بضحكه:
: لا كده أنا لازم أخلي بالي، عقاب زي ده أنا مش قدّه.
لم تتمالك آية نفسها فضحكت على أسلوبه، ثم اردفت بابتسامة:
: شكراً على الملخصات… الصراحة ما كنتش متوقعة تطلع بالجمال والسهولة دي.
معتصم: أي خدمة يا ستي. ولو احتجتي حاجة تانية خلي عمي محمد يكلمني وأنا أظبطهالك.
اردفت بعفوية :
: الحقيقة أنا قلت كفاية بجاحه… بس وماله نستغلك لحد ما نخلص من أم الكلية دي. ها، موافق؟
معتصم بضحكه:
: وماله… استغليني زي ما إنتِ عاوزة.
ابتسمت بفرحة:
: قشطة … يلا سلامات انا بقا عشان متأخرش.
هزّ معتصم رأسه مبتسماً وهو يتابع خطواتها بنظرات حملت إحساساً جميلاً لم يستطع تجاهله، قبل أن يعود إلى منزله.
...
عند رغد، انتهت من تحضير الطعام مع خالتها، وطوال الوقت كانت تبحث عنه بعينيها ، لكنه لم يظهر. زفرت تنهيدة حزينة، وأسندت قلبها إلى الله. وبعد أن فرغوا من كل شيء، استأذنت خالتها لتغادر، وفي تلك اللحظة دخل إسلام ويتبعه المعتصم.
إسلام بهدوء: هنتغدى الأول، وبعدها أوصلك.
رغد برفض مرتبك: لا… أنا مش جعانة، ورايا حاجات للكلية عاوزة أخلصها.
رفع إسلام حاجبه بلمعة مكر، يتأملها مليًّا:
: مالك؟ شكلك مدايقة… حد زعلك؟
هزت رأسها بسرعة محاولة الهروب:
: لا، مفيش.
ابتسمت خالتها بحنان وهي تمسك يدها:
: أمال ليه مش عاوزة تتغدي معانا؟وعاوزه تمشي من اول ما جيتي ، وأنا اللي مش راضية.
رغد بتهرب: ما أنا قلتلك يا خالتي، عندي حاجات لازم أخلصها للكليّة.
هنا مالت رأس معتصم نحوها وهمس بحدة يسمعها وحدها:
: بطّلي غباء، انتي خلصتي امتحاناتك من يومين… لو ماما مش واخدة بالها، إسلام مش غبي، وعارف إنك في أجازة.
ارتبكت رغد، وداهمها الحرج، كأنها تذكرت غباءها في اللحظة الأخيرة، فرفعت عينيها إلى إسلام لتجد نظراته غامضة لم تستطع تفسيرها، فازدادت ارتباكًا.
وعندما لاحظ معتصم احتباس الموقف، اردف بحماس ليقطع التوتر: على فكرة… في موضوع مهم كنت حابب أقولكم عليه.
حول إسلام نظره إليه وبغمزه :
خير يا وحش؟ أوعَ يكون اللي في بالي.
معتصم بضحكه... بالظبط.
ثم نظر لرغد وغمز لها بخفة:... هخلّصك مني يا ستّي، اهو لقيت اللي هتشيل همّي.
رغد بصدمه ... أحلف! يعني خلاص لقيت اللي "تلمّك"… احم قصدي اللي تتجوزك؟
انفجروا جميعًا في الضحك عليها، فزاد إحراجها.
والدته وهي تضحك... طب ومين دي يا ولدي اللي خطفت قلب سي معتصم؟
معتصم بابتسامه دافيه... بنت الحج محمد، آيه.
ارتسمت الفرحة على ملامح والدته:
واردفت بفرحة... يا زين ما اخترت يا معتصم.
التفت معتصم نحو شقيقه بحب:
... إيه رأيك يا حبيب؟
إسلام بابتسامه عريضه... ألف مبروك يا غالي، خلينا نشوف يوم نروح نطلبها من الحج محمد… وبعدها أنا آخدك وتطلبلي أنا كمان.
الكلمه نزلت على رغد كسهم غادر، فحاولت أن تسيطر على ارتجاف أنفاسها.
أما معتصم فنظر بدهشة إلى أخيه، غير مستوعب قصده، حتى غمز له إسلام، فاتسعت عينا معتصم بصدمة عندما فهم قصده وسرعان ما تحولت إلى فرح كاد ينفجر من صدره، لولا أن إسلام قبض على يده بقوة ليُسكته، فبلع حماسه وصمت.
الأم باستفهام حائر: مش فاهمة يا ابني… تطلب مين بالضبط؟
إسلام بنبرة غامضة وهو يرمق رغد: أصل رغد أقنعتني… وأنا في الحقيقة اقتنعت بكلامها.
(رفع عينيه نحوها، فرأى في نظراتها ألمًا دفينًا جعل قلبه يثقل بالندم، فقد أدرك أنه هو من تسبب في ذلك.)
الأم باستغراب: أقنعتك بإيه؟ مش فاهمة حاجة.
إسلام بهدوء متحفظ: بعدين يا أمي… المهم دلوقتي نفرح بمعتصم، وأنا هفهمك قصدي.
الام بموأمه: ماشي يا حبيبي… زي ما تحب.
معتصم بمرح : يلا بينا بقى ناكل… أنا خلاص هموت من الجوع.
(ضحك إسلام وربّت على كتفه برفق، ثم التفت إلى رغد. كان وجهها شاحبًا، ويديها ترتجفان رغم محاولتها إخفاء ذلك. اقترب منها بصوت خافت يحمل قلقًا:): رغد إنتي كويسة؟
نظرت له وحركت رأسها وغادرت خلف خالتها دون أن تنطق بكلمة... حاولت أن تضبط نفسها وجلست على السفرة معهم، لأنها تعلم يقينًا أنه لن يسمح لها بالمغادرة.
مر الوقت ببطء، ثم وقفت في مكانها، وهو يلاحظ أنها لم تتناول لقمة واحدة. قالت بهدوء مصطنع:
رغد: خالتي.. أنا همشي دلوقتي، ماما رنّت عليّ والفون كان صامت، شكلها محتجاني.
إسلام (بهدوء): تعالي أوصلك.
رغد (بإصرار): لا.. أنا هروح لوحدي.
إسلام (بجدية وحزم): قلت هوصلك.. يلا.
هزّت رأسها والدموع تلمع في عينيها، ثم غادرت بسرعة لأنها تعرف أنه إذا قال كلمة فلن يتراجع. تبعها بخطوات ثابتة، بينما كانت تحاول أن تخفي دموعها. وبعد لحظة من الصمت، سألها بهدوء: رغد.. الإنسان الخاين من وجهة نظرك، بتشوفيه إزاي؟
نظرت له باستغراب ولم تفهم سبب السؤال، لكنها تنهدت وأجابت:
الخيانة نقض العهد.. أيًّا كان نوعه. تصرّف مذموم وغير أخلاقي في كل الأديان والثقافات. لأن الخاين مش جدير بالثقة.. شخص أناني بيفكر في مصلحته وبس. والرسول عليه الصلاة والسلام حذرنا من اللي بيحمل طبع الخيانة.
توقفت قليلًا ثم تابعت بوعي أكبر:
: الخاين قلبه مش نضيف.. لأن مفيش إنسان نضيف يجرح أو يأذي حد، أو حتى يهون عليه زعله. لكن الخاين.. عنده كل ده سهل.
رفعت عينيها إليه بتساؤل:
: بس.. ليه بتسألني السؤال ده؟
إسلام بتنهيدة: عشان عاوز أجابتك… لو أنا وثقت في إنسان وخاني، في حاجة تشفع لخيانته؟
رغد برفض : مفيش أي حاجة في الدنيا تشفع للخيانة. ومن رحمة ربنا بينور بصيرتنا، ونفهم مين حوالينا حبايب ومين لأ.
إسلام بجديّة: وانتي قلتي قبل كده إني غلط ومفكرتش في خالي ولا في سيرة بنته… فأكيد دلوقتي فهمتي سببي.
رغد بشهقة: مستحيــــل!
إسلام بوجع: إيه اللي مستحيل بالظبط؟
رغد بدموع: إزاي… أنا مش قادرة أستوعب. دي يا مجنونة يا معندهاش عقل. إزاي تفكر تخونك؟ هي مش واخدة بالها اتجوزت مين؟
(ضحك إسلام بخفة على حبها الواضح، أما هي فلم تستطع منع شهقتها واستمرت بالبكاء. اقترب منها بقلق عليها.)
إسلام بقلق: اهدي يا رغد… مالك في إيه؟
رغد ببكاء: أنا آسفة على الكلام اللي قلتهولك قبل كده… ربنا بيحبك عشان بعدها عنك. أنا أصلًا مصدقتش خطوبتك منها، وكنت هموت وأجي أخنقك وأقولك دي مش شكلك… بس مقدرتش.
إسلام بابتسامة: يا ريتك جيتي يا رغد… صدقيني مكنتش كملت يوم معاها. (وبتنهيده) أنا اتشغلت في شغلي ومكنتش أعرف عنها كتير. بالعكس، مرات عمي هي اللي قالتلي إنها بتحبني وحابه نتعرف، وأنا مرضتش أحرجها. وبالفعل شوفتها، ومنكرش إنها عجبتني، واتوهّمت بحبها… لحد ما اكتشفت إنها بتخوني، وإنها شايفاني مش عاجبها لأني "جاهل".
رغد بانفعال: مش عاجب مين؟! اللي كلها على بعضها غرقانة في جردل بويا! دا من غير مكياجها بتبقى شكل سيد ابن عمتي!
وجاهل؟! بنت أشجان بتقول عليك جاهل! أمال لو مش مخلص دبلوم تجارة وهي أصلاً طالعة من إعدادية؟ بنت الساقطة!
ضحك إسلام بصوت عالٍ على طريقتها، بينما كانت هي تتنفس بغضب، لكن سرعان ما سرحت في ضحكاته التي خطفت قلبها.
إسلام بضحك : أقسم بالله ما ضحكت من زمان الضحك ده يعمّر بيتك.
رغد بكسوف متذمرة: ما أنا اتغظت... وبصراحة ما شوفتش بجاحة زي دي، مش كفاية إن أمها هي اللي جت طلبتك.
إسلام وهو يحاول كتم ضحكته : اسكتي ... الناس بتتفرج علينا خلاص مبقتش قادر... لينظر حاوله محاولا كتم ضحكاته يهبتك اللي راحت يا ابن السامري!
لم تتمالك نفسها، فغلبتها الضحكة غصب عنها على طريقته، وعلى ضحكته اللي خطفتها خطف.
إسلام بابتسامه: قدامي يا بلوة.
رغد بكسوف : وأنا مالي يا لمبي الله!
ابتسم إسلام وهو يرمقها مطولًا، ثم اردف بنبرة جادة ممزوجة بابتسامة:
: قوليلي بقى يا ستّي، ليه كنتي دايمًا بتتهرّبي مني لدرجة إني نسيتك أصلًا؟
نظرت للأرض بحزن، ثم رفعت عينيها ببطء واردفت بهدوء:
: عادي... كنت دايمًا صامت وجاد أوي، وده كان بيرعبني منك. بس لما اتعاملت معاك... استغربت إزاي كنت شايفاك بالشكل ده.
فهم إسلام وأومأ برأسه بصمت. وبعد فترة، حين وصلا، ودّعها ليستعد للمغادرة، لكنها استوقفته بدهشة:
مش هتيجي تسلّم على ماما؟
إسلام: إن شاء الله هجيلها مرّة تانية.
فأردفت بلهفة :
: طيب... قصدك إيه بإنك هتاخد معتصم يطلبلك؟ (وتوقفت لحظة لتفكر بحزن) يعني... هتخطب؟
تجمدت ابتسامته قليلًا، وتابع ببرود يخفي وراءه شيئًا:
: هتعرفي بعدين... سلام.
ابتعد بخطوات ثابتة، بينما بقيت هي مكانها، قلبها يتأرجح بين فرحة عابرة من ضحكاته، ووجع عميق أيقظته كلماته الأخيرة.
.......
في المنزل، كان قلب والدة معتصم يخفق من السعادة بعدما فهمت ما قصده إسلام من حديثه مع ابنها. رفعت يديها إلى السماء تحمد الله وتبتهل له بالفرج.
وما إن دخل إسلام البيت، حتى هرعت إليه واحتضنته بقوة، غلبتها الدموع فانهمرت بلا توقف. أدرك على الفور أن معتصم قد أخبرها بما دار، فابتسم بحنان وضمها إلى صدره قائلاً بصوت دافئ:
ــ خلاص يا أمي... مش عايز أشوف دموعك تاني.
رفعت وجهها إليه وعيناها تلمعان بالدموع :
ــ دي دموع الفرح يا حبيبي... دموع الحمد لله.
......
في اليوم التالي طلب معتصم من الحج محمد أن يقابله، وذهب مع شقيقه إسلام، وهناك طلب يد آية. فرحب بهم الحج محمد جدًا.
أما آية، فلما علمت بالأمر ازدادت فرحتها ووافقت، فشعر الجميع بالسعادة، وقرأوا الفاتحة.
إسلام بهدوء:
ــ شوف يا حج محمد يوم يناسبك ونلبس الشبكة.
الحج محمد بطيبة:
ــ شوفوا أنتم يا بني، إمتى جهزين، واللي فيه الخير يقدمه ربنا.
معتصم بلهفة:
ــ ياريت يا حج توافق على الخطوبة ومعاها كتب الكتاب كمان.
الحج محمد بابتسامة:
ــ لي الاسعجال يا بني؟ كل حاجة بوقتها.
معتصم بإصرار:
ــ معلش يا حج... عشان كل حاجة تبقى بالحلال وبما يرضي الله، وكمان أحب أدخل بيتك وأنا ابنك.
الحج محمد بتفهم:
ــ وأنا موافق يا بني... وعارف إنك راجل.
فرح معتصم وإسلام، وباركهم الحج محمد، وتم الاتفاق على الخطوبة وكتب الكتاب بعد يومين، بسبب أعمال إسلام وامتحانات آية. وبعد الاتفاق استأذنوا وغادروا.
خرج معتصم فرحًا واردف بحماس:
ــ يلا همو"ت وأشوف رد فعل رغد لما تعرف إنك متقدملها.
إسلام باستغراب:
ــ وإيه الغريب يعني؟ ممكن ما توافقش، خصوصًا إني كنت متجوز قبل كده.
معتصم بثقة:
ــ لا، رغد عاقلة جدًا، ومش بيشغلها الكلام ده. أهم حاجة عندها الشخص نفسه وأخلاقه... غير إنك حب طفولتها.
إسلام بصدمة:
ــ نعم؟!
معتصم بضحكه:
ــ آه والله يا أخي زي ما بقولك... أيام ما كنت بذاكرلها، كانت طول ما هي قاعدة تسرح وتكتب اسمك على الكتب. ويختييي لو سمعت صوتك! تجري بسرعة وتستخبى في أي مكان.
ابتسم بخفة وهو يسترجع تلك الأيام، ثم تابع بابتسامة :
ــ كانت فاكرة إن محدش واخد باله، بس الحقيقة الكل كان عارف... حتى أمك. ولما مرات خالك كلمتك عن بنتها يوم ما رحت تزور خالك وقت تعبه، وقعدتك معاها، وانت اتكسفت منهم وطلبتها ساعتها. أمك مقدرتش تقولك على رغد، لأنها كانت شايفة إنك اديت لخالك كلمة، لكن فضلت طول الوقت تحذرك من الموضوع ومن بنت خالك. وبعدها لما لاحظنا حبك ليها، سكتنا.
إسلام بتنهيدة :
ــ كنت موهوم بحبي ليها... بس بعد اللي عملته، ملقتش جوايا أي مشاعر ناحيتها. بالعكس... ببقى مشمئز من نفسي كل ما أفتكر إن في يوم كنت عاوزها ومبسوط بيها.
معتصم بتفهم وهو يربت على كتفه:
ــ الحمد لله إنك فقت بدري... وبسبب طيبتك وقلبك النضيف، ربنا عوّضك برغد اللي بتحبك بصدق.
ثم ابتسم بخفة وأضاف:
ــ عارف يا إسلام... كنت دايمًا أقول لنفسي وأنا بشوف حبها ليك... يا ترى هييجي يوم وتكون في واحدة تحبني الحب ده كله؟
إسلام بتنهيدة ثقيلة، وكأنه يخرج ثِقلاً من صدره:
إسلام: الظاهر إني كنت الوحيد الأعمى.
معتصم بابتسامة: المهم إنك فُقت.
ابتسم إسلام نصف ابتسامة، لكن عقله ظل مشغولاً بكلمات أخيه، حتى وصلا إلى بيت خالتهم. خرجت الخالة بوجه مليء بالحنان، فابتسموا بصدق:
(وبحب): أخبارك إيه يا حبيبتي؟
خالتهم (بحنية ممزوجة بعِتاب): بخير يا حبيبي… بس زعلانة منك يا معتصم، يعني من يوم ما جيت ما شوفتكش غير مرتين!
معتصم (بمشاكسة خفيفة): معلش يا خالتي، أصلي عارف إن الحج مسافر، قلت أحترم نفسي!
ضحكت الخالة وصفقَته بكفها بحنية:
: يخيبك يا واد… عايز تهرب من العتاب يعني؟
معتصم (بحب واعتذار): والله غصب عني يا غالية، بس أوعدك الجايات كتير إن شاء الله.
الخالة (بصدق): إن شاء الله يا حبيبي.
وفي الداخل، كانت رغد قد تجمّدت مكانها عند سماع صوت إسلام. قلبها خفق بعنف، حاولت أن تقترب لتسمع حديثهم، لكنها ترددت؛ جزء منها يريد الخروج، والجزء الآخر يَكبحه الخجل والضيق منه.
توجه إسلام إلى خالته بنبرة هادئة لكنها جادة:
: خالتي… أمي أكيد كلمتك، وعرفتي إني طلّقت.
سقطت ملامح الحزن على وجه الخالة، ثم تنفست براحة ممزوجة بالأسى:
: الحمد لله يا بني إنك خلصت منها… أنا والله كنت مقهورة بجوّزتك دي.
شعر إسلام بلسعة في قلبه، تنهد بعُمق، أدرك أنه كان الوحيد الأعمى عن حقيقتها، والعمل كان يسرق عمره لحظة بلحظة. لولا وجود أخيه بجواره، لما وجد من يوقفه عند حدود نفسه إلا النوم.
رفع رأسه هذه المرة، وصوته خرج بنبرة جادة لا تحتمل المراوغة:
سلام بجدية :
الحمد لله إني فقت بدري يا خالتي… وأنا جاي النهارده عشان اطلب إيد رغد.
خالته بعينين يملؤهما الفرح:
وأنت متترفضش يا حبيبي.
إسلام بامتنان:
تسلمي يا خالتي… أنا كلمت الحج مصطفى، وهو محب بالموضوع ، وقالي أشوف رأي رغد الأول… وبعدها هو هيكلم أخوه الحج حسن ونحدد كل حاجة إن شاء الله.
خالته بسعادة:
طيب يا حبيبي، دقيقه واحدة أنادي رغد… وانت تقولها بنفسك.
(ولتفتت لمعتصم) وانت يا معتصم، قوم اعمل حاجة نشربها.
معتصم بصدمة:
نعم؟!
خالته بغيظ :
قوم يالا، نسيت نفسك ولا إيه؟
معتصم بضحكه :
لا يا حبيبتي ما نسيتش… عن إذنك يا معلم، خالتك بتخليلك الجو.
إسلام بابتسامة:
قهوة بقى يا وحش… ومظبوطة.
ضحك معتصم وخرج وهو يتمتم، تاركًا الجو مهيأ للحظة المصارحة.
....
عند رغد، كانت تدور في الغرفة بغيظ وفضول، تريد أن تفهم سر ضحكاتهم وسبب مجيئهم المفاجئ.
دخلت والدتها عليها بابتسامة دافئة واردفت بحب:
"إيه يا حبيبتي، هتفضلي كده كل ما ابن خالتك ييجي تحبسي نفسك؟"
رغد بتوتر:
"ها؟! لا عادي يا ماما… يعني لو خرجت إيه اللي هيفرق؟"
والدتها بهدوء وحزم لطيف:
"طيب، قومي البسي ودقيقتين واشوفك قدامي."
رغد باستغراب:
"طيب…"
ارتدت ملابسها على عجل، ثم خرجت بخطوات مترددة، وبهدوء ألقت السلام:
"السلام عليكم."
إسلام بابتسامة عريضة:
"وعليكم السلام."
أمها، وهي تغمز بخفة:
"طيب، هسيبكم شوية… الحج بيتصل، هارد عليه وراجعالكم."
إسلام وهو يرمي قبلة خفية:خدي وقتك يا غالية.
ضحكت خالته وخرجت، لتبقى رغد واقفة مرتبكة، لا تفهم ما يدور حولها. نظرت إلى إسلام واردفت بتساؤل:
أمال معتصم فين؟ أنا سمعت صوته.
إسلام بهدوء مصطنع: بيعملي قهوة.
رغد بصدمة: معتصم؟!
إسلام مال بجسده قليلًا نحوها، وصوته اتسم بالجدية: سيبك من ده كله... أنا عاوز آخد رأيك في حاجة.
رغد بتوتر وهي تحاول التحكم في ارتجاف صوتها: أي؟
إسلام تردد لحظة قبل أن يتكلم، وكأنه يقيس أثر كلماته عليها:
أمم.. مفيش يا ستي، أنا كنت جاي أسأل خالتي عن بنت عجبتني. هي قالت إنها كويسة جدًا... فقلت آخد رأيك إنتي كمان، بما إنك عرفاها.
رغد شعرت وكأن قلبها انقبض فجأة، فخرجت كلماتها متقطعة ومليئة بالوجع: أنا مش هفيدك في حاجة... وكفاية رأي ماما.
إسلام بابتسامة هادئة، وكأنه لم يلحظ العاصفة التي اشتعلت بداخلها: إزاي بس؟! ده إنتي بنت خالتي، ومن سنها، وأكيد ليكي نظرة مختلفة.
لم تحتمل رغد أكثر، فسقطت دموعها بلا استئذان، يدها ارتفعت لتغطي وجهها المرتجف، وظلت تبكي بصوت مكتوم. لم يكن البكاء مجرد دموع، بل صرخة مكبوتة خرجت غصبًا عنها، بعد أن زاد الضغط عليها حتى انهارت. فأكثر ما يجرحها الان هو اضطرارها لتبرير تلك الدموع، بينما الحقيقة أنها تبكي لأنها تحبه، وهو لا يرى.
يتبع...
رواية ما أفسدته الأنثى الأولى تعوضه الثانية الفصل السابع 7 من هنا