رواية أميرة البحر القرمزي كاملة عبر روايات الخلاصة بقلم إسماعيل موسى
رواية أميرة البحر القرمزي الفصل الرابع 4
ارتجف السيف الحجري بين يدي الفتاة، أثقل من أن يُحمل، والدموع تنهمر على وجهها الصغير. جسدها يكاد ينكسر تحت وطأة الخوف والوزن، وصوت بكائها يملأ الساحة الحجرية.
في تلك اللحظة، رفعت المرأة ـ الطيف المتجسد في هيئة الجنية ـ رأسها عاليًا، وأطلقت صرخة حادّة هزّت المكان. لم تكن صرخة غضب فقط، بل مزيج من ألمٍ دفين ووعيد، صرخة اخترقت الصخور والجدران، حتى بدت الأرض كلها ترتجف كأنها تئن تحت وطأة وجودها.
الجنيات القزمات التصقن بالجدار، وجوههن شاحبة وعيونهن متسعة بالرعب، حتى القزم نفسه وضع يده على صدره وكأنه يخشى أن يتمزق قلبه من شدّة الصدى.
أما الفتاة، فقد سقطت على ركبتيها والسيف يتهاوى بجانبها، وأذناها تنزفان قليلًا من شدّة الصرخة.
وبعد أن خيّم صمت ثقيل، اقترب الطيف خطوة للوراء، ثم خطوة أخرى، ببطء كأن انسحابه نفسه طقس من الرعب. ومع كل خطوة، كانت نبرته تنخفض، صوته يتشقق كالحجر المتآكل، حتى صار أشبه بالهمس المبحوح:
ـ "إن لم تنهضي قريبًا… إن لم تصبحي ما وُلدتِ لتكوني… فسأعود… ولن أترككِ إلا جثة بين هذه الجدران."
تلاشى ضوء عينيه الرماديتين تدريجيًا، وذابت ملامحه في الظلام حتى لم يبقَ سوى صدى صوته يتردد في أرجاء الساحة، يلتف حولهم كالطَوق:
ـ "تذكّري… الوقت… ينفد."
ثم انطفأ كل شيء، ولم يبقَ إلا ارتعاشة الفتاة وصوت بكائها وهي تحتضن نفسها بجوار السيف.
بعد أن تلاشى الطيف واختفت ملامحه في ظلمة القبو، ظل الصدى يتردد طويلًا بين الجدران، كأن الصوت لم يرد الرحيل. كان المكان يئن من شدّة الرهبة، والجنيات القزمات متجمّدات في أماكنهن، لم يجرؤن حتى على التنفّس بعمق.
أما الفتاة، فكانت جاثية على ركبتيها، ذراعاها تحيطان بجسدها النحيل، والسيف الحجري ملقى إلى جانبها. دموعها انهمرت بلا توقف، وصوت بكائها ارتفع كأنه نحيب طفل ضائع. كانت عيناها الزائغتان لا تجرؤان على النظر إلى أي اتجاه، تخشى أن يظهر الطيف ثانية.
اقترب القزم ببطء، خطواته مثقلة، حتى جلس بجوارها. نظر إلى وجهها الغارق في الدموع، إلى يديها المرتجفتين، ثم تنهد بعمق، صوته لأول مرة يلين وهو يمد يده ليمسح شعرها المبلل بالعرق:
ـ "اهدئي يا صغيرة… لقد رحلت."
لكن الفتاة لم تتوقف عن البكاء. هزّت رأسها بعنف وهي تهمس بين شهقاتها:
ـ "ستعود… قال إنه سيعود… سيقتلني… أنا ضعيفة… لن أستطيع."
عقد القزم حاجبيه، الغضب والخوف يتصارعان في ملامحه. ضم قبضته الصغيرة على السيف الحجري ثم أبعده عنها، كأنه يخشى أن يرهقها أكثر. جلس إلى جانبها على الأرض الباردة، وراح يتحدث بنبرة منخفضة، أقرب إلى همس أبويّ لم يسبق لها أن سمعته منه:
ـ "نعم… سيعود. الطيف لا يكذب. لكن اسمعي جيدًا… لم أستسلم لكِ يومًا، ولن أستسلم الآن. أنتِ لستِ عاجزة كما تظنين. نحن سنعمل… في الخفاء كما كنا نفعل. سنتدرب وحدنا، بعيدًا عن أعينهن… وسأجعلك تقفين حين يعود، حتى لو اضطررت أن أضحّي بكل ما عندي."
رفعت الفتاة رأسها ببطء، عيناها مغرورقتان بالدموع، تحدّق فيه وكأنها تحاول تصديق كلماته. ابتسم لها ابتسامة باهتة، لكنها كانت كافية لتخفّف من رعبها قليلًا.
ثم أضاف، صوته جاد لكنه أكثر دفئًا من أي وقت مضى:
ـ "أنتِ لستِ وحدكِ هنا… تذكّري ذلك دائمًا."
ظل جالسًا بجوارها، حتى خمد بكاؤها شيئًا فشيئًا، واستسلمت للإرهاق وغفت برأسها على كتف حجر القبو. أما هو، فبقي ساهرًا إلى جوارها، عيناه تترقبان الظلام، يخشى أن يظهر الطيف من جديد.
استمرّت الأيام على وتيرة متشابهة، ثقيلة الإيقاع، كأن الزمن نفسه تعمّد أن يتباطأ حول الفتاة. كانت تتعثر في خطواتها، ينهار السيف الحجري من يديها مرارًا، تتلوى ذراعاها تحت ثقل لم تحتمله بعد، ويغمرها العجز كما لو كان ظلًا لا يفارقها.
الجنيات القزمات كنّ يلتزمن واجبهن في التدريب، يتبادلن النظرات الصامتة كلما أخفقت، وفي أعماقهن تساؤل لم يجرؤن على البوح به: هل ستفلح هذه الطفلة يومًا؟ أما القزم المكلّف بها، فقد ظلّ يضمر كل مشاعره في قلبه، يظهر لها فقط الصبر، ويحاول أن يحجب عن الجميع قلقه المتزايد.
لكن ما لم يدركه معظمهم، أن عينًا أخرى كانت تراقب المشهد من بعيد، عينًا أكثر قسوة وجمودًا. الطيف الذي ظهر ذات يوم صار عادة غامضة في ساحة التدريب. أحيانًا يتشكّل على هيئة جنية جافة الملامح في ركن معتم من القبو، عيناها متوهجتان كالجمر، لا تتفوه بكلمة ولا تقترب، فقط تراقب.
وأحيانًا أخرى، حين تكون التدريبات في الخارج، تخترع الطيف لنفسه مكانًا غريبًا بسحره: تلة صغيرة تنبت فجأة، مكسوة بالزهور البيضاء والمشمش المتدلّي، يجلس فوقها في سكونٍ غريب، يراقب الطفلة وهي تترنّح تحت السيف الحجري، دون أن يمد يدًا أو يطلق كلمة.
كلما سقطت الفتاة على الأرض، وكلما انكفأت دموعها على التراب، رفعت رأسها مذعورة تبحث في الأركان المظلمة أو القمم البعيدة، لترى إن كان الطيف قد تحرّك. لكن دائمًا، كانت الجنية الغامضة تبقى في مكانها، لا تهتف، لا تقترب، لا تمنحها سوى صمت كالقضاء.
أحيانًا، حين تنهار الطفلة أكثر من اللازم، كان القزم يلتفت بعصبية إلى التلة أو الركن، كأنه يتحدّى بنظره ذاك الوجود الذي لا يرحم. لكنه لم يتلقى يومًا ردًا أو إشارة، فقط ذلك التحديق الصامت الذي يضاعف ثقله على كاهله.
مرّت الشهور هكذا: الطفلة تكافح، القزم يواصل محاولاته السرّية اليائسة لتقوية جسدها، الجنيات يدرّبنها بلا يقين، والطيف… يراقب من بعيد، صامتًا كقدر مؤجل.
كانت الطفلة جالسة على الأرض الترابية في زاوية القاعة، أنفاسها متقطعة من التعب، وذراعاها ترتجفان بعد أن سقط السيف الحجري من بين أصابعها للمرة الخامسة في ذلك اليوم. القزم الصغير جلس قريبًا منها، يحاول أن يمنحها صبرًا لم يعد متأكدًا من وجوده.
رفعت الفتاة رأسها، وعيناها تبحثان في الظلام البعيد حيث لمّحت أكثر من مرة ملامح الطيف ــ الجنية التي تؤمن في أعماقها أنها أمها. صوتها خرج ضعيفًا، يختلط بالدموع:
ــ "لماذا هي قاسية معي هكذا؟"
لم يعلّق القزم، فتابعت كمن يفرغ ما يثقل صدره:
ــ "إنها أمي… أعرف ذلك. لكن… لماذا لا تفعل ما تفعله الأمهات مع بناتهن؟ لا تضمّني، لا تحكي لي قصصًا، لا تبتسم لي ولو مرة واحدة. كل ما تفعله هو أن تحدّق بي ببرود، أو تصرخ، أو تجعلني أشعر أنني لا أساوي شيئًا."
ارتعشت شفتاها، وأكملت كمن يفضح سرًا لم يعد يحتمله قلبها:
ــ "أشتاق إليها حتى وهي أمامي. كل ليلة أنام وأنا أرجو أن تقترب مني، أن تلمس شعري، أن تخبرني أنني لست سيئة… لكن عندما أنظر إليها، أراها كأنها بعيدة جدًا، كأنني لا أصل إليها مهما بكيت."
حاول القزم أن يتكلم، لكن كلماته انحبست في حلقه. لم يجرؤ أن ينطق بالحقيقة، أن هذه الجنية ليست أمها، بل مجرد طيف يراقب. الطفلة لم تعرف سوى هذا اليقين: أن تلك الجنية الغامضة هي أمها الحقيقية، وأن قسوتها حرمانٌ موجع لا تفسير له.
ثم شهقت الطفلة فجأة، ودفنت وجهها في ركبتيها، تبكي بصمت، كلماتها تخرج بين شهقاتها:
ــ "لماذا يا أمي؟ لماذا لا تحبيني مثلما أحبك؟"
أما القزم، فقد بقي صامتًا، يتأمل الطفلة وهي تغرق في دموعها، وعيناه ترفّان بخوف خفي، يتساءل: هل تسمع الجنية هذه الكلمات الآن؟ وهل سيُثير ذلك في قلبها شيئًا… أم ستظلّ صخرة جليدية لا ترحم؟
مضت الشهور بطيئة، كل يوم يشبه الآخر، الطفلة تنهض باكرًا، تمسك بالسيف الحجري الذي يثقل يديها، تتعثر، تسقط، ثم تعيد المحاولة تحت نظرات الجنيات القزمات وإشراف القزم. التدريب صار عادة يومية، كأنها عقوبة أكثر منه تعلّم. جسدها الصغير لم يقوَ بعد، لكن القزم ظلّ يصر على التدرّج، محاولًا أن يزرع في قلبها بعض الأمل.
ومع كل يوم، لم تغب تلك الظلال… الطيف الجنية. أحيانًا تراها الطفلة على قمة التلة الزهرية التي تنبت من العدم، تجلس بجمود، وأحيانًا أخرى في ركن مظلم من الساحة، لا تبارح مكانها، تتابع كل حركة بعينين لا ترمش. كان وجودها يثقل المكان أكثر من ثقل السيف الحجري نفسه.
مرت الشهور على هذا النحو حتى جاء ذلك اليوم. كانت الطفلة تحاول للمرة العشرين أن ترفع السيف عالياً، لكن ذراعيها خانتاها وسقطت على الأرض، يسبقها أنين متعب. أسرعت الجنيات القزمات إليها لمساعدتها، لكن فجأة انقطع الهواء من حولهن… والبرد تسلّل إلى العظام.
ظهرت الجنية الطيف. خرجت من الظلال ببطء، جسدها يتلألأ بوميض بارد، ملامحها جافة، قاسية، وعيناها تتوهجان كجمرين. توقّف الجميع عن الحركة، حتى القزم نفسه تجمّد مكانه.
تقدّمت بخطوات ثابتة حتى وقفت أمام الطفلة المنهكة على الأرض. رفعت يدها، وأشارت إلى الفتاة بصوت حادّ، متصدّع كصوت حديد يُجرّ على الصخر:
ــ "عقابها."
ارتجفت الطفلة، نظرت حولها باحثة عن تفسير. القزم اندفع للأمام محاولًا الاعتراض:
ــ "لكنها ما زالت صغيرة، ليست مستعدة بعد!"
صرخت الجنية صرخة قصمت الصمت، فارتدت الجنيات للخلف، وأطرق القزم رأسه مذعورًا. ثم كررت ببطء، نبرة صوتها أشبه بحكم لا يُرد:
ــ "لتُعاقب. الآن."
انحدرت دموع الطفلة وهي تزحف إلى الوراء، تتشبّث بتراب الساحة، تلهث:
ــ "أمي… أرجوك… لا… لا تفعلين هذا بي!"
لكن عيني الجنية ظلّتا جامدتين، لا رحمة فيهما، كأنها لم تسمع كلمة.
حين أمرت الجنية بالعقاب، لم يتجرأ أحد على الاعتراض. الجنيات القزمات، اللواتي كنّ يدرّبن الطفلة يوميًا، تبادلن نظرات مضطربة، ثم اقتربن منها ببطء. الطفلة، بعينين دامعتين، راحت تتشبّث بملابس القزم وتصرخ:
ــ "لا تتركني! أرجوك… لا تتركني معها!"
لكن القزم نفسه لم يملك أن يفعل شيئًا، نظرته كانت مزيجًا من الغضب والذل، يداه ترتجفان وهو يبتعد خطوة إلى الوراء، كأن أي حركة مخالفة قد تعرّضه للهلاك.
قادوا الطفلة عبر ممرات ضيقة نحو كهف جانبي بعيد، سقفه منخفض وجدرانه ملساء تنزّ منها قطرات ماء باردة. أُدخلت الطفلة إلى الداخل، باب حجري ضخم يُسحب خلفها، يغلق فتحة الكهف ببطء حتى انطبقت العتمة. آخر ما رأته قبل أن يغلق الباب نهائيًا كان لمحة من وجه الجنية ــ والدتها كما تصدّق ــ جامدًا كالحجر، لا يحمل أي عاطفة.
انغلق الباب، وابتلع الظلام الطفلة.
في البداية، راحت تضرب الحجارة بيديها الصغيرتين وتصرخ:
ــ "أمي! أمي لا تتركيني هنا! أعدك أنني سأكون أفضل… أعدك أنني سأحمل السيف! فقط افتحي الباب!"
لكن لا مجيب. لم يكن سوى صدى صوتها يرتدّ من جدران الكهف، كأنها تنادي نفسها فقط.
بعد ساعة أو أكثر، بدأ الصمت يزداد ثِقلاً. برودة الأرض تشلّ قدميها، والرطوبة تتسرب إلى صدرها. جلست تحتضن ركبتيها، عيناها متسعتان في العتمة، تتخيل أشكالاً تتحرك حولها. كل نسمة هواء تتحول في ذهنها إلى أنفاس، كل قطرة ماء تسقط تتحول إلى وقع خطوات.
بدأ الخوف يتكاثر في عقلها، يكبر حتى صار وحشًا جاثمًا فوق صدرها. لم يعد في رأسها سوى فكرة واحدة: أمي تكرهني… لهذا تركتني هنا.
مرت الدقائق كساعات، والساعات كدهور. كان قلبها يخفق بعنف كلما تخيلت ملامح تظهر من الظلام، كأن العتمة نفسها قررت أن تبتلعها.
لم تبكِ بصوت عالٍ، بل كان بكاؤها مكتومًا، متقطعًا، أشبه بأنين حيوان صغير جريح. والليل بأسره مضى هكذا: طفلة وحيدة، ترتجف وسط كهف مغلق، تبحث في الظلام عن أي دليل على أن أمها ستعود… لكنها لم تعد.
وعندما فُتح الباب في الصباح، كان أول ما رأته هو الضوء القاسي الذي غمر الكهف، يلسع عينيها بعد ليلٍ طويل من السواد. وقفت مترنحة، عيناها حمراوان من السهر والخوف، نظرتها متبلدة كأنها لم تعد تلك الطفلة التي دخلت الكهف ليلة البارحة.
في تلك الليلة التي أُغلِق فيها الكهف على الطفلة، حين خيّم السواد وأطبق عليها كالغلاف، حدث ما ظلّت بعد ذلك تتذكّره كأنه حلم… أو وهم نسجته روحها في لحظة انهيار.
كانت جالسة إلى الحائط، عيناها تحاولان اختراق الظلمة، ودموعها تجفّ على خديها، عندما سمعت خشخشة خفيفة من عمق الكهف، صوت جناحين صغيرين يضربان الهواء الرطب. شدّت نفسها أكثر إلى الزاوية، قلبها يخفق كطبل، حتى رأت خيالًا دقيقًا يقترب، يتلألأ بضوء خافت كأنّه وميض من قنديل منسيّ.
لم تكن فراشة كما خُيّل لها أول الأمر، بل جرادة عمياء، لونها باهت وقرونها طويلة، لكن عينيها العاجزتين كانتا تبثان عطفًا غريبًا. جلست الجرادة على حجر مبلل، وبصوت رقيق متكسّر، بدا وكأنّه يخرج من أعماق الكهف نفسه، قالت:
ــ "لماذا تبكين يا صغيرة؟"
شهقت الطفلة، حدّقت فيها بدهشة، ثم انهمرت كلماتها كالسيل:
ــ "لأن أمي… لا تحبني. هي لا ترحمني. تتركني هنا في العتمة، وحدي، وكأنني لست ابنتها. كل يوم تصرخ، كل يوم تجعلني أشعر أنني لا شيء… لماذا؟ لماذا تعاملني هكذا؟"
أطرقت الجرادة العمياء، وجناحاها يهتزان بهدوء، كأنها تتنهّد بأسى. ثم تقدّمت قليلاً، ورفعت أحد أرجلها الأمامية لتقتلع من جدار الكهف عشبة ضئيلة، قرمزية اللون، تشع بوميض خافت وسط الظلام. مدّتها إلى الطفلة، وقالت بصوت أقرب إلى الهمس:
ــ "خذيها… كليها. لكن انتظري… عشرة ليالٍ قمريّة. لا تخبري أحدًا، لا تدعي الطيف يعلم. بعد الليلة العاشرة… سأعود إليك."
تردّدت الطفلة، نظرت إلى العشبة بيد مرتعشة، ثم إلى الجرادة التي لا ترى لكنها تعرف أنها تشفق عليها بصدق لم تعرفه من قبل. أخذت العشبة ببطء، ووضعتها إلى صدرها كمن يخفي كنزًا.
ابتسمت الجرادة، رغم أنها بلا ملامح واضحة:
ــ "لا تنسي… عشرة ليالٍ فقط. بعدها… لن تكوني كما أنت الآن."
ثم رفرفت بجناحيها واختفت في عتمة الكهف، تاركة الطفلة بين خوف وأمل، تمسك بالعشبة القرمزية كما لو كانت أول لمسة حنان حقيقية في حياتها.
مضت الليالي بطيئة، ثقيلة، والطفلة تحتضن العشبة القرمزية كمن يحتضن سرًا يخصّها وحدها. في الليلة الأولى والثانية، لم تشعر بشيء سوى وخز غامض في معدتها، كأن نارًا صغيرة تتململ داخلها. في الليلة الثالثة، أخذت أنفاسها تثقل، وأحلامها امتلأت بصور غريبة: أجنحة مظلمة تحلّق فوقها، ووميض نجوم تشتعل ثم تنطفئ.
بحلول الليلة الخامسة، كانت الطفلة مختلفة. جسدها الضعيف لم يعد كما كان، كأن شيئًا في عروقها تبدّل. في صباح ذلك اليوم، حين حملت السيف الحجري كالعادة، توقّع الجميع سقوطه من يديها خلال لحظات. القزم وقف جانبها متحفّزًا لمساعدتها، والجنيات القزمات تهيأن لإعادة نفس المشهد المألوف من التعثر والفشل.
لكن الطفلة فاجأتهم جميعًا. أمسكت بمقبض السيف بكلتا يديها، شدّت ذراعيها الصغيرتين، ولم يسقط. على العكس، رفعت النصل فوق رأسها ببطء، كأن ثِقله لم يعد كما كان.
تجمّد القزم في مكانه، عيناه تتسعان بدهشة صامتة. الجنيات تبادلن النظرات غير مصدّقات، إحداهن غطّت فمها بيدها وهي تهمس:
ــ "كيف…؟!"
والطفلة نفسها، رغم عرقها الذي سال على جبينها، شعرت لأول مرة أن جسدها يطيعها، أن القوة ليست حلمًا بعيدًا. نظرت إلى القزم بعينين تلمعان، وقالت بصوت خافت:
ــ "انظر… لم يسقط."
ظلّت تحمل السيف للحظات طويلة، أطول مما تحملته في أي يوم مضى، حتى أنها خطت خطوة للأمام وضربت الهواء بحركة غير متزنة لكنها حقيقية. ارتجّ صدى الضربة في القاعة، فارتجف القزم وكأن وقعها أصاب قلبه هو.
وقف مشدوهًا، نصف مصدّق، نصف خائف، وعيناه لم تفارقا الفتاة، بينما في داخله سؤال واحد يتردّد كطعنة: من أين جاءت هذه القوة؟
أما الطفلة، فقد ابتسمت لأول مرة، ابتسامة صغيرة باهتة، لكنها حملت شيئًا من الفخر لم تعرفه من قبل.
يتبع...