📁

رواية أعلنت الحرب على قلبي الفصل التاسع والعشرون 29 بقلم إسماعيل موسى

رواية أعلنت الحرب على قلبي عبر روايات الخلاصة بقلم إسماعيل موسى

رواية أعلنت الحرب على قلبي الفصل التاسع والعشرون 29 بقلم إسماعيل موسى

رواية أعلنت الحرب على قلبي الفصل التاسع والعشرون 29

   ما قبل النهايه


كانت الغرفة التي تسكنها ندى أقرب إلى كهف منسيّ، تختبئ فيه من ضجيج العالم. الستائر مسدلة منذ شهور، الضوء ينساب بالكاد من بين ثقوب صغيرة تشبه مسام الزمن، والهواء ثقيل برائحة الأوراق القديمة والحبر اليابس. فوق الطاولة الخشبية المتهالكة تراكمت دفاتر سميرة موسى، بعضها أصفرّت أطرافه، وبعضها الآخر ما زال محتفظًا بلمعانٍ يشبه عناد صاحبة الدفاتر نفسها.


جلست ندى أمامها، كتفها منحنيتان، وعيناها تسبحان بين السطور كمن يبحث عن خيط رفيع يقوده عبر متاهة مظلمة. كانت تعرف أن سميرة توقفت هنا، في منتصف جملة رياضية مبتورة، كما لو أن الزمن قاطعها فجأة. وفي هامش جانبي كتبت العالمة بخطٍ صغير متردد: «هناك معاملٌ زمنيّ لم أستطع أن أستقرّ عليه».


ارتجف قلب ندى عند قراءة تلك الجملة للمرة المئة. شعرت أن سميرة، من وراء عقود، تركت هذا السطر لها هي تحديدًا، كأنها رسالة شخصية عبر الزمن.


بدأت ندى رحلتها من هناك. أعادت كتابة كل معادلة بخط يدها، بخطوط مستقيمة أكثر صرامة، وبدأت تحوّل الرموز الكلاسيكية إلى لغة حديثة، أكثر قربًا من أدوات العصر. لم يكن الأمر مجرد نسخ؛ كان أشبه بترجمة، أو كأنها تُعيد عزف قطعة موسيقية قديمة على آلة جديدة.


وبينما الليل يبتلع المدينة، كانت أصوات السيارات في الخارج تتلاشى لتصير همهمة بعيدة، يرافقها صرير قلمها الرصاص على الورق. تتوقف أحيانًا، تسند جبينها بكفها، ثم تعود فتكتب معادلة جديدة، تضع سهمًا، ثم كلمة «لماذا؟».


في إحدى الليالي، غاصت في معادلة طيفية كتبتها سميرة بخطٍ متعجّل:


\mathcal{L}\psi = \lambda \psi,\qquad \psi \in \mathcal{H}


رفعت رأسها، وتساءلت بصوت مسموع:

«لكن هل الطيف هنا متقطع أم ممتد؟»


أخذت نفسًا عميقًا، ثم أضافت في دفترها بخطها: «مع وجود فجوة طيفية، يمكن تقسيم الحلول إلى قطاعات قابلة للتحليل.»

شعرت للحظة أن روح سميرة تبتسم لها من مكانٍ بعيد.


تتابعت الليالي. غاصت ندى في صياغة أخرى:


G(z) = (\mathcal{L}-z I)^{-1}


وراحت تتتبع خصائصه التحليلية كما لو كانت تمشي في ممر طويل مضاء بمصابيح متقطعة. في كل مرة تصل إلى حدٍّ معتم، تكتب: «ربما هنا كانت تتوقف سميرة… لكنني سأكمل.»


حين وصلت إلى فكرة الزمن والذاكرة، شعرت أن قلبها يقفز. أعادت صياغة ما كان ناقصًا في دفتر العالمة:


\frac{\partial}{\partial t}\Phi(t) = \mathcal{L}\Phi(t) + \int_{0}^{t} K(t-s)\,\mathcal{M}\,\Phi(s)\,ds


كتبت ذلك ببطء، يدها ترتجف، ثم تمتمت:

«ها هو العامل الزمني… هذا ما كنتِ تبحثين عنه يا سميرة.»


مرت الأيام، ثم الشهور، ثم العام الأول. لم تعد تخرج إلا نادرًا، ولم تعد تردّ على الهاتف. أصدقاؤها ظنوا أنها هربت من العالم، لكن الحقيقة أنها كانت تعيش في عالم آخر، عالم داخل دفاتر ممتلئة برموز وأسرار.


وفي الليلة التي أكملت فيها معادلة التوازن التي توقفت عندها سميرة، وجدت نفسها أمام صياغة جديدة:


Q(t) = \int_0^\infty \rho(E)\,f(E)\,e^{-\alpha(E) t}\,dE


نظرت إلى الورقة طويلاً، حتى أن عينيها احمرّتا. ثم كتبت بخطٍ واضح في الهامش: «إذا كانت  متزايدة، فإن السلوك ينهار نحو حد مستقر.»

وضعت القلم، وأغلقت عينيها. لأول مرة منذ شهور شعرت أن صدرها يتنفس بعمق.


وفي صباح اليوم التالي، جلست أمام الصفحة الأخيرة من دفتر سميرة، وكتبت بخطٍ هادئ: «أُغلقت الحلقة.»


خرجت إلى الشرفة بعد أن وضعت كل الأوراق في صندوق خشبي صغير. كانت السماء رمادية، والريح الباردة تضرب وجهها برفق. شعرت أنها لم تكمل فقط معادلات عالمة رحلت منذ زمن، بل أغلقت معها فجوة في نسيج الذاكرة الإنسانية.


تمتمت بصوت خافت، وكأنها تخاطب الغياب:

«لكِ… ومن بعدكِ. العلم لا يملك منّا سوى ما نتركه للآخرين.»


ثم جلست، ساكنة، تحدق في الأفق، بينما دفاتر سميرة وندى تستريح أخيرًا، متجاورة، كأنهما نصّان من كتاب واحد.


دخلت ندى القاعة الصغيرة بخطى لا تتردّد، ومعها الحقيبة الجلدية التي تضمّ دفاترها ونسخة الطباعة النهائية من الرسالة. كان قلبها يقرع في صدرها وكأنّه يعلن انتصارًا مُسبقًا؛ بعد عام ونصف من العزل، بعد ليالٍ لم تنطفئ فيها المصابيح سوى لتعود، كانت تحمل في يدها شيئًا تعتبره ثمرة حياة كاملة — إتمام لمعادلاتٍ لم تُنجَز من قبل وكسر لثغرة تركتها علمية رحلت بغير وداع.


جلست أمام مكتب اللجنة، ونظراتها تتجوّل على الوجوه: عميد الكلية بملامح صارمة انهكتها سنون التدبير، الأستاذ المشرف الذي كان يحتفظ بابتسامةٍ متحفظة، وزملاء لم تُعرّفهم سوى أسماء على قائمة. رفعت ندى ملفها أمامهم، حملته وكأنها تقدّم فنجانًا من الحقيقة.


قالت بكلام هادىء يحمل ثقةٍ صمّاء: «أنا متأكدة أنكم عندما تقرأون هذه الصفحات ستعرفون أن ما كنت تبحثون عنه في دفاتر سميرة موسى قد عُدل وُبيّن وأُحكم من منطقٍ رياضي صارم. لم ينجز ذلك أحد قبلها ولم يُكملّه أحد بعدُ — أنا لم آتِ لأعيد صياغة كلمات، بل لأسدّ ثغرة تاريخية.»


توقّفت، سمعت همسًا خفيفًا من أحد الأساتذة: «تجرؤين يا آنسة؟» ابتسمت ندى ابتسامةٍ متعبة ثم أسدلت جملة تكميلية: «التجرؤ هنا أداة بحث، ومَن لا يجرؤ لا يكتب التاريخ.»


مدّت يدها لتسلّم الملف. توقّف العميد عن النظر إلى أوراقه لبرهة، ثم أمسك الملف، فتح غلافه نظرة سريعة كمن يريد أن يشعر بثقل الورق لكنه لا يرغب أن يقرأ الآن. مرت لحظاتٍ صمتٍ قصيرة كأنها شدّت الحبال حول صدر ندى. ثم قال العميد بصوتٍ هادئٍ لكنه نهائي: «ندى… أنا أقدّر ما بذلته، وأعرف أن هذا العمل مهما كان قد حمل من جرم فكري فهو ثمين. لكن لدينا نظام، وتواريخ نهائية لا تُعدّل بعد انتهائها. مع الأسف، تقدّمتِ بعد الموعد النهائي المتفق عليه. لا أستطيع إعتماد شيء بهذا التخطيط الإداري. آسف.»


كانت الكلمات بسيطة ولكنّها قوية كحجرٍ يصطدم بزجاج. ارتعشت يد ندى التي كانت على طرف الحقيبة؛ فانسكبت منها ورقة سالت على الأرض. لم يكن العميد ينظر إليها بل إلى النظام، وكان في نبرة حديثه أسفٌ مكتمل بالامتناع: «أعيد الملف لكِ الآن. حظ أوفر في مرّة قادمة.»


الشعور الذي اجتاحها لم يكن صدمة مفاجئة فحسب، بل خسارة مزدوجة: رفضٌ لصيغة رسالتها، ورفضٌ لاعتبارٍ مؤسسٍ لا ينظر إلى ما هو أبعد من صفحة توقيت. ارتفعت حرارة وجهها، صوت داخلي صارخ يريد أن يجيب ويبثّ فيهم تمام ما في القلب من حجج، ولكنها تذكّرت كل الليالي التي أمضتها وحيدة، وحفظت هذا الصمت كخيار أخلاقيٍ صغير؛ لأن الجدال الآن سيعيدها خطوات إلى الخلف، وسيحوّل إنجازها إلى لحظة درامية فورًا تُخبِرها بأنها لم تضبط الساعات جيدًا.


نهضت ببطء، التقطت الملف من يده، وشكرت العميد بصوتٍ رقيق أقل ما فيه صرامة العتب: «شكرًا على وقتكم، سأعود» — لكنها لم تكن متأكدة إن كانت ستعود إلى هنا بصيغةِ نفس الطلب أو بصيغةٍ أخرى.


خارج القاعة، وقفت قليلًا تحت شرفة الجدران الجامعية؛ الهواء كان قاتمًا برائحة الكتب القديمة والمطر الآتي من بعيد. شعرت أن الجبل الذي بنته في داخلها لديها الآن ثغرة جديدة؛ ليست في المعادلات، بل في معادلة الزمان. وعمق الجرح لم يكن في ضياع الاعتراف، بل في أن العالم البيروقراطي قد رفض، بلا قراءة، شيئًا اعتبرته ندى مِحيصًا حقيقيًا للعِلْم.


لم تنهَر عند الباب، لكن عينيها لم تخفِ الدمع. مدّت يدها لتمسح ورقة طويت من الملف، ثم نظرت نحو السماء لبرهة قصيرة، كما لو أنها تهمس لذاتٍ قديمة: «ما زال أمامي وقت لأعيد ترتيب الساعات.»


كان العميد قد وضع على الطاولة خلفه الملف المفتوح، يحدّق في صفحاته لحظة قبل أن يُسدل غطاء ملف آخر — ربما في ساعةٍ من بعد، سيسأل نفسه إن كان النظام وحده كافٍ ليحكم على قيمة صفحاتٍ كتبت بليالٍ من الأسى والعمل. لكنه لم يقل شيئًا، وندى لم تنتظر أن يطيل بالأسئلة. حملت ملفها، وسارت بعيدًا في طرق الكلية، وعيناها كانت تحملان معادلاتٍ لم تُقتل بعد؛ إنما فقط أجلت قراءة العالم لها، لكنها تعهّدت لنفسها أن لا تؤجل العلم.


توجه جاسم نحوها بخطى مترددة حين خرجت من أسوار الكلية، وجهه يحمل مزيجاً من الإصرار والارتباك. كانت الشمس قد امتدّت خلف غيم رقيق، وظلال الطلاب تمتد على الأرض كأشباح صغيرة، لكن ندى كانت تمشي وكأن العالم اختزل إلى حقيبة جلدية ومجموعات من الأوراق بين يديها.


اقترب منها وهمس بصوت يكاد يختنق قبل أن يصل إلى ثغرتها: — ندى، إسمحي لي… لو احتجتي أي مساعدة في الموضوع… أنا هنا.


التفتت ببطء، نظراتها ثابتة لا تترجى ولا توسّع صدرها. بدا عليه أنه ينتظر شيئاً من صلابةٍ أو ضعفٍ من طرفها، لكنه عرف سريعًا أن تلك الصلابة ليست استعلاء بل دفاع: — لا، شكراً يا دكتور جاسم. أنا لا أحتاج إلى مساعدة.


لم يكن في كلماتها برودٌ قاسٍ، كانت مجرد حدود واضحة أرادت أن ترسمها. الرد كان كافياً. تراجع جاسم خطوتين، حاول أن يرد بهدوء: — لو غيّرتِ رأيكِ… حتى مجرد كلام.


هزّت رأسها بلا تبرير، وواصلت طريقها. شعر جاسم وكأن شيئاً ما انغلق بينهما، كأن نفَساً قد سُحب من المسافة التي تربط القرابة بالصراحة. وقف ينظر لها حتى اندثرت بين المارة، ثم عاد إلى خطواته بعينين ثقيلتين.


ندى خرجت من بوابة الكلية وهي تحمل الإحباط فوق كتفها كحقيبة ثانية. لم تكن تصريحات العميد وحدها ما يثقلها الآن؛ كانت الإحباطة من أن العلم يُقاس أحياناً بساعة إدارية، وبأن العالم الذي تُحاول أن تُجمله بقوانين ومعادلات يردّ عليها لاحقاً بلا قراءة. سارت في الشارع، كل خطوة تمدّ هماً في جسدها، كل خطوة كانت تردد في قلبها الجملة التي لا تريد نطقها بصوتٍ أعلى: "لا أحد يسمع."


لم تكن قد قطعت أكثر من عشر خطوات عندما رن هاتفها. رقم مجهول. توقفت لثانية، ثم التقطت، صوت هادئ من الطرف الآخر، خالٍ من تعجب ومحمّل بنبرة عملية: — مرحباً، هل هذه الآنسة ندى؟ أنا اطلعت على نسخة موجزة من رسالتك. اسمي د. سامي، أعمل في جامعة خاصة. عملك… مثير للاهتمام. هل يمكنك الحضور غداً لمقابلة سريعة؟


تجمّدت، قلبها ارتفع بضربة حادة، ثم حاولت أن تخفي الاستجابة المبكرة التي رافقتها رغبة خافتة في الأمل: — من أنتم بالتحديد؟ كيف حصلتم على نسختي؟


تلك الدقائق الهادئة كانت وكأنها حساباتٍ صغيرة داخل عقلها. الصوت أجاب هادئًا: — جئت عن طريق أحد الباحثين الذين تعرفونهم بالصدفة. لا تقلقي بشأن التفاصيل الآن. اطلبي مهلة أسبوعاً للتفكير، وسأقرأ رسالتك بعناية قبل أن أعطيك قراراً نهائياً.


لم يغلق الحديث بعد. كان في نبرة المتحدث احترام لعملها ووضوح في العرض، لا وعوداً طائلة ولا مبالغات. قبلت ندى الموعد بصوتٍ خافت: — سأحضر. ولكن أعطني أسبوعاً للرد.


أنهى المكالمة ووضعت الهاتف في حقيبتها. وقفت لحظة طويلة تواجه الشارع، والهواء البارد يلامس وجهها. كانت الفرصة — ولو عبر نافذة جامعة خاصة — أشبه بنفَس دخل من نافذة صغيرة بعد حبس طويل. لم تكن تثق بسهولته، لكنها شعرت أن هناك جسراً يمكنها أن تمشي فوقه الآن، خطوة واحدة لكل أسبوع. أخذت نفسًا عميقًا، وواصلت السير، هذه المرة بخطى أقلّ توتراً قليلاً، ومع حقيبةٍ تبدو أخف قليلاً تحت شمس متعبة.


جلس الأستاذ في مكتبه المطلة على باحة الجامعة، يفرغ فنجان قهوته ببطء وكأن كل صفاتهم العادية تتراص لتستقبل وثيقة ليست كغيرها. دخلت ندى، خطواتها مترددة قليلاً لكن عينيها صلبة، تحمل بين يديها ملفّاً رقيقاً بدا أثقل مما هو من ورق — وحمله أثقل، انتظارٌ وصورة لإنجازٍ راكمته ليالٍ من العزلة. كان المكتب مغطى بأوراق ومراجع، لكن عندما وضع الملف على المكتب تبددت كل الفوضى وكأن الورق نفسه فرض نظامه.


قرأ الأستاذ بعض الصفحات بعينين تتوسعان ببطء، يهمس بين أسطرها بتعابير نادرة: "ممتاز… هذا توجّه جريء… هذا انسجام فكري حقيقي." كان انبهاره هادئاً لكن واضحاً، كمن يكتشف عملاً نادراً بين أكوام عادية. نهض من وراء مكتبه وإن ستار الصرامة لا يزال على محياه، بدا الرجل صغيراً أمام شرف ما يقرأه: عيناه تشع بالتقدير، صوته يلين عندما يدعوها لأن تجلس.


تحدثا طويلاً؛ الأسئلة كانت دقيقة، وإجاباتها ملساء مرتبة، لا ترف ولا رهبة، فقط احترامٌ لعملٍ يكمل عملاً آخر. حرص الأستاذ على أن يشرح لها، بلغة لا تتعالى ولا تتواضع، ما الذي يجعل هذه الورقة جديرة بأن تُعرض خارج جدران الكلية؛ كيف يمكن أن تُطرَح في محافل علمية، كيف أنّ صِغَر الفكرة تقِف كحلقة ربط بين أجيالٍ من الباحثين. وعدها بصوتٍ بدا كتعهّدٍ مهني:


— سأعرض رسالتك على زملائي في المؤتمر خلال يومين. أعطني ٤٨ ساعة فقط؛ سأضع الأمر في جدول الجلسات. لديكِ ما يثير الاهتمام حقاً، وينبغي أن يسمع عنه الآخرون.


غادرت ندى ذلك اليوم بشعورٍ مركب: فرح يكاد يترك أثره على شفتيها، وخوفٌ حذر من أن تكون التوقعات أكبر من قدراتها، لكن الفخر كان صادقاً. احتفظت بوعده في قلبها، ونامت تلك الليلة على فكرةٍ بسيطة: أن عملها لن يضيع.


مرّت يومان كما تمرّ الأيام الثقيلة: بهدوئها الوهمي، بأوراقٍ هنا وهناك، بمقاطعٍ قصيرة من رسائل إلكترونية. في الصباح الذي اتفقت فيه مع الأستاذ على موعد تسليم مبسّط، خرجت ندى باكراً من بيتها، ارتدت معطفها الخفيف، مشدودة بخيوط من الهدوء. الشارع كان مزدحماً كعادته، رائحة البن القادمة من مقهى زاوية، ضوضاء السيارات، ودواسات الدراجات. كل ما حولها كان عادياً لدرجة الألم.


لم يتجاوز المشهد الهدوء الفضفاض للحياة الراقصة في الصباح قبل أن تنقلب لفتة — لم تكن هناك صرخات، ولا سيارات مسرعة، فقط حركةٌ خاطفة، كأن عقلاً وحيداً قرر أن يطيح بقرارٍ آخر. شعرت بظل يميلٌ نحوها من جهة الجدار؛ قبل أن تلملم دهشتها، رجلان اقتربا من الخلف. كان التحرك سريعاً، ببرودةٍ مدرّبة: يد تسدّ فمها بلطفٍ خشن، قطعة قماش تقترب من أنفها. لم تملك إلا لحظاتٍ قليلة لتلتقط إشارةٍ واحدة: وجهٌ لم تره من قبل، نظرةٌ لا تعرف لها سبباً، ثم سحبٌ خفيف وكأن الأرض انزلقت تحت قدميها.


تأرجحت لثوانٍ، صوت العالم يتلاشى كحائطٍ ينهار. عجزت عن الصراخ، غرقت في دوامةٍ سريعة، وبدأت ترى ألواناً باهتة قبل أن تتبدد الرؤية. وقعها على الرصيف لم يكن قوياً، بل كان هادئاً كإغلاق كتابٍ لم تُكمل قراءته. حملوها برفقٍ غريبٍ، كأنما يقتولون شيئاً ثميناً بهدوء. تُركت حقيبتها على الأرض، أوراقها تتناثر، والنظرات حولها تراكضت في أماكنها، لا تصدق ولا تجرؤ على الاقتراب.


نُقلت في هدوءٍ نظاميّ مخيف إلى سيارة مظللة اختفت بين زحام الصباح، والشارع عاد بعد دقائق ليعمل كلوحةٍ بلا شائبة: الناس يمضون، أحدهم ينحني لالتقاط ورقةٍ طارت، شابٌ يردّ هاتفه، لا أحدُ يدرك أن حياةً أغلقت فجأةً مثل صفحةٍ قلبتها ريح. كانت آخر صورة لندى قبل أن تختفي: حقيبتها تُلقى جانباً، أوراقها متناثرة وكأن العالم رفض أن يتوقف، وصوت خطوات بعيدة يرتد بين الجدران.


وهكذا — من وعدٍ علميّ هادئ في مكتبٍ جامعي، إلى اختفاءٍ سريع في قلب المدينة. لم تترك وراءها سوى ملفٍّ مفتوح على طاولة، وعدٍ على ورقة، وساعةٍ توقفت عند توقيتٍ لا يرحم.


فتحت ندى عينيها ببطء، كان أول ما شعرت به ثِقَل رأسها وكأن أحدهم ضغط على جمجمتها من الداخل. الهواء من حولها خانق، رائحة صدأ قديم مختلطة برائحة مواد تنظيف حادة. حاولت أن ترفع رأسها، فشعرت ببرودة معدن أسفلها، سطح طاولة ربما، أو سرير ميداني. الأضواء فوقها متقطعة، مصابيح نيون باهتة تومض بلا انتظام، تُلقي بالظلال على جدران ضيقة مطلية بلون رمادي متآكل.


تحركت قليلاً، استندت بكفيها، وبدأت تستعيد إدراكها. الأصوات من حولها لم تكن مألوفة؛ خطوات سريعة، همسات تتدفق كجدول، لكن الكلمات لم تكن عربية. كانت لغة حادة، سريعة، لم تلتقط منها سوى القليل: حروف متقطعة، نطق غريب، لكنها تعرفه — العبرية.


حاولت أن تتماسك. مدت بصرها من خلال زجاج صغير في الجدار الصدئ، فانكشفت أمامها صورة صادمة: شوارع ضيقة مرصوفة بإسفلت داكن، أبنية إسمنتية خالية من الألوان، لافتات مضاءة بأحرف عبرية، أضواء النيون تعكس نفسها على الواجهات الزجاجية. ازدحم المكان بجنود بملابس عسكرية مموهة، وأجهزة اتصال تُصدر أصواتاً متقطعة. لحظة تركيز واحدة كانت كافية لتصعقها الحقيقة: لقد أُلقيت في قلب مدينة لا تُشبه القاهرة، ولا أي مدينة مصرية… لقد كانت في إيلات.


ارتجف قلبها. المكان الذي وجدت نفسها فيه بدا كأنه مركز عمليات قديم — غرفة واسعة تحيط بها شاشات مراقبة قديمة الطراز، أجهزة لاسلكية ثقيلة موضوعة على طاولات معدنية، خرائط معلقة على الجدران تحدد حدوداً وخطوطاً عسكرية. بعض الأجهزة بدا وكأنه من حقبة الثمانينات، لكنها ما زالت تعمل، كأنهم أعادوا إحياءها خصيصاً لهذا الغرض.


اقترب منها رجل بزي مدني، شعره أشقر وعيناه زرقاوان، يتحدث العبرية بحدة بينما يشير لآخرين حوله. لم تفهم كل ما قاله، لكن كلمة واحدة تسللت إلى ذهنها بوضوح: "מחקר" — بحث.


عندها فقط أدركت: لم تكن مجرد مختطفة، بل كانت مادة بحث، عقلها، أوراقها، معادلاتها هي الهدف. حاولت أن تتحرك، لكنها اكتشفت أن معصميها مقيدان بقيود معدنية رفيعة إلى حواف السرير المعدني. شعرت بدم بارد ينساب في عروقها.


رفعت رأسها، تحدق في العيون الغريبة التي تراقبها من وراء الزجاج العاكس. قالت بصوتٍ خافتٍ لكنه ثابت:

— "أنتم لن تفهموا ما كتبته، حتى لو سرقتموه."


صدى صوتها ارتدّ في الغرفة الضيقة، وأحسّت للحظة أن معركتها لم تعد ورقية أو أكاديمية، بل تحولت إلى صراع وجودي: عقلها في مواجهة آلة كاملة.


         حشمت


لن اتركك  قدرنا واحد يا سلوان، مسح حشمت مندور المكان بالكاد يستطيع الوقوف على قدميه، أصوات الجنود تقترب

وسلوان غير قادره على الحركه، أدرك حشمت مندور ان هروبهم مستحيل، اتكاء بظهره على جدار مهدم واشعل سيجاره الان يمكننى ان ابصق على اجسادهم وجه لوجه

انا لست خائف من الموت يا سلوان انا خائف من فكرة فقدك

اقترب الجنود ولمح حشمت مندور وجوههم اللعينه ،اهلآ يا اولاد القح....... غمغم حشمت مندور وهو يتوقع نهايته فى اى لحظه ثم انطلقت قذيفة اربجية سحقت مدرعه عسكريه

انصت حشمت مندور وهو يسمع نغم الرصاص ينهمر من كل جهه، كانت بقايا المقاومه التى نجت من التفجير الأول

تحمس حشمت مندور ونهض من مكانه يعرف ان دقائق معدوه تحدد مصيره ومصير سلوان وضع يدها فوق كتفه وسار فى خط متعرج ،لن نموت اليوم يا سلوان للأسف من بعيد اتت المساعده رجال ملثمين ركضو نحوهم حمل حشمت مندور وسلوان لداخل سياره فى الناحيه الأخرى وحملت معهم اجساد مصابه مجروحه ثم انطلقت السياره بهم بعيد عن منطقة المواجهه، تم علاج ندى وحشمت مندور فى فى احد مقار المقاومه العسكريه تلقو الاسعافات الاوليه وسمح لهم بالمغادرة لأن المشفى المتحرك يتلقى كل دقيقه اعداد لا حصر لها من المصابين.


بعد اسبوع قضاه حشمت مندور وسلوان فى الاستشفاء طلب حشمت مندور من سلوان الزواج منها

وتم عقد قرانهم على يد مأذون شرعى ،لم يكن هناك شهر عسل كالمعتاد ولا ليلة زفاف، كانت سلوان وافقت على خطة حشمت مندور ،الانتقال إلى أرض العدو ،التسلل إلى داخل أرض اخرائيل بطريقة او بأخرى

تحولت الليله التى يحلم بها كل شابين إلى اهم ليله فى حياتهم، سلوان كانت متقنه تماما للغة العدو كأنها وأحده منهم

ومن سخافة الظروف كان شكل حشمت مندور وهيئته الجسمانيه تشبه واحد من الاوغاد فبرغم طبيعته الاجراميه الا ان مظهره الذى لا يد له فيه كان وسيم وملامحه تميل إلى الافرنجين وصلو إلى منزل شخص من عرب 48 المقيم فى ايلات  وهناك مكثو لأكثر من أسبوع قبل أن يبدأو تحركهم لتفجير بعض منشأت العدو التى من بينها أحدا المنشأت البحثية النوويه

يتبع...

رواية أعلنت الحرب على قلبي الفصل الثلاثون 30 والأخير من هنا

رواية أعلنت الحرب على قلبي كاملة من هنا

روايات الخلاصة ✨🪶♥️
روايات الخلاصة ✨🪶♥️
تعليقات