📁

رواية أعلنت الحرب على قلبي الفصل السادس والعشرون 26 بقلم إسماعيل موسى

رواية أعلنت الحرب على قلبي عبر روايات الخلاصة بقلم إسماعيل موسى

رواية أعلنت الحرب على قلبي الفصل السادس والعشرون 26 بقلم إسماعيل موسى

رواية أعلنت الحرب على قلبي الفصل السادس والعشرون 26

تحرك حشمت مندور ليس كمن يهرب، بل كمن يمرّ من بين بقايا قصّة انتهت قبل قليل. كل خطوةٍ له كانت تُخرِج صوتًا من فم المدينة: خشخشةُ زجاجٍ، انزلاقُ حجارةٍ، أنينٌ لا يعرف أيّ لغة يتكلم بها. الغبار كان يلتصق ببشرته كأنما يريد أن يمحوها حتى من ذاكرته، والهواء محمّلٌ برائحة الدم والحطب المحترق والملابس الممزقة — رائحةٌ تجعل الفم جافًا وتقلّب الصدر كدرقٍّ خائف.


في الطريق، وجوهٌ متجمّدةٌ منتصفَ الهلع: امرأةٌ تُشدّ نصفها خارجًا من تحت لوحٍ، قدماها تنزفان كغصنٍ قُطع للتو، عيونها تبحث عن شيء لم يعد موجودًا. رجلٌ شاب يقفز من حجرٍ إلى حجرٍ حاملًا طفلة على ذراعٍ واحدة، الحمّى قد شلت حركتها، عيناهما تربطان بعضهما ببعض كرمزٍ صغيرٍ للحياة الأخيرة. طفلٌ يجلس على رصيفٍ وهو يلمس وجهًا مغطّى بترابٍ أحمر ويضحك بلا صوتٍ — الضحك الذي لا يسمع إلا في غرف الجنائز.


حشمت لا يرى أسماءً، يرى كائناتٍ تنهارُ أمامه. يسمع أنينًا يعلو من نوافذٍ مُحترقة، يسمع طرقاتٍ على خشبٍ، ونبراتٍ تقول: "لم يعد هناك ماء" بصوتٍ اختنق. في كل زاوية، يقرأ اللافتة الوحيدة الباقية: "هربوا"، أو "اغلق الباب". الأطفال صاروا يعطون المدينة وجهاً آخر — وجوهٌ مختصرة على هيئة صرخةٍ طويلة.


الدم كان بطله، لكنه لم يكن مجرد سائلٍ؛ كان ذاكرةً على الأسفلت. بقعٌ حمراء متفرقة تُخبرك أن الحياة توقّفت هنا قبل لحظاتٍ، وأن الهمّ صار خبرًا ثقيلًا على كلّ صدرٍ يمرّ. قطعٌ من ملابسٍ ملوّثة، أحذيةٌ مفصولةٌ عن أرجلٍ، ألعابٌ صغيرة ملقاةً وسط البربرية: كأنّ الأطفال تركوا عالمهم لوهلة ثم لم يعودوا.


حين التفت إلى اليمين رأى رجلاً يجثو على ركبتيه، يفتح صدره كما لو أنه يودّ أن يفهم أي جزءٍ منه لا يزال يعمل. صوت الرجل متقطع— "أمي… يا الله…"، ثم سقط بوجهه في التراب. المرأة التي كانت بجانبه صمتت وألقت نظرةً كأنها تُحصي عدد النفوس التي فاضت، ثم أخذت تغطّي وجهها بيديها كما تُغطي جرحًا لا يداوي.


حشمت سار وسط هدوءٍ كهذا، والهواء يضخم كل شيء: النفس، الخرزةُ الدخانية، الإحساس بأن الزمن مفتوحٌ على هيئة قرعٍ لا يتوقف. لم يكن هناك استراتيجيات كثيرة: فقط رغبةٍ عنيفةٌ واحدة — أن ينقلها هي (المرأة) وأولادها بعيدًا عن شِبهِ مقبرة هذه الشوارع.


لم تكن خطواته نظيفة. مرّةً تكلّم إلى طفلٍ ملقىٍ على جانب الطريق فتلوّن وجهه بصدمةٍ تحمل أكثر من أسفٍ؛ لم يستطع الطفل أن يفرّ. لم يكن للأطفال أسماء، فلم يَبقَ إلا أسئلةٌ حادة في حلق حشمت: كيف سيُعلّمون الأطفال أن يفتتحوا حياةً بعد هذا؟ كيف ستترسّخ الذاكرة على جدرانهم؟ كيف ستعود الأصوات إلى بيوتهم بعد أن صارت كلُّ الأصوات مسموعةً كجنازاتٍ متتالية؟


كان هناك مشهدٌ — واحدٌ — ربط قلبه بما بقي: أمٌ تحاول إيقاظ زوجها الملقى على رصيفٍ بجوارها؛ هي تضرب كتفه بقبضتها، ثم تُسلّم للحزن، تغمض عينيه بعنف، تُقبّل جبينه بقبلةٍ جاءت من بعد، وكأنها تُنهي مؤامرة زوايا الحياة. حشمت تقدّم، أمسك بكتفها، رفع جفنها، لكن ما رآه في عينيها: استسلامٌ لم يصبح يُرى سوى على وجوه الأموات. تلك النظرة— كانت قصاصًا في قلبه، شيءٌ أشدّ من كل رصاصٍ أصابه.


حين حمل طفلاً كان قد تفوّه اسمًا واحدًا فقط — لا يفهمه، لكنّه يشعر به: "ماما". الصراخ الخافت تحوّل إلى صمتٍ مجمد. حشمت وضع الطفل على كتفه كشاهدٍ صغيرٍ على ما حدث، وحاول أن يخفي الهلع خلف جسمٍ ميّت حقيقةً: جسده تحرّك كما لو أن قواعده شُحنت بمجموعةٍ أخرى من الأوامر— أوامر قديمة بقاءٍ بحت.


القنابل لا تُسمع هنا كأحمالٍ بعيدة؛ كانت تأتي قريبة، تَقصّ في صدر الطرقات فجواتٍ يخرج منها الناس كالمنفيين. نافذةٌ تقطع، سقفٌ يسقط، سقطةٌ تكمّلها صرخة. ولأنهم لا يملكون إلا أجسادهم، صار اللاعبون الأوائل هم الذين يُرَتّبون النجاة بالشكل الأكثر بدائية: سحبٌ بيدين، دفعٌ بكتف، وعدٌ همسي: "امشوا، لا تتوقفوا".


المرأة التي معه — كانت تتلوى بين انهياراتٍ قصيرةٍ ثم تنهض كطائرٍ اصطاده رياحٌ باردة. حشمت استعمل كل جزءٍ من قوته، لم يكن وقتًا للتفكير بالنعيم بعد الآن. مرّةً أو مرتين، اضطر إلى الوقوف لحظةً ليلتقط أنفاسه، ولكن لا أحدًا يمنحه الهواء بهدوء؛ الهدوء هنا كان فخًا. عند كل وقفة، رُسمت لهُ مشاهدٌ جديدة: رجالٌ بملابسٍ متسخة يفتحون أبوابًا لم يكن أحد يعلم بوجودها، قلبٌ يرتفع ثم يسقط، امرأةٌ تحمل رضيعًا لا حراك له.


في لحظةٍ اشتدت فيها الهمهمة — صياح، طلقات، رضّ أرضي — سمع نحيب شخصٍ عالقٍ تحت سقفٍ نصفه — صوتٌ يُخنق، ثم يتوقف. حشمت توقّف وحدّق؛ كان بوسع أي إنسانٍ أن يغمض عينيه ويقول إنّها بلا معنى؛ لكن في كل مرةٍ كان يكتشف معنىً أعمق: أن يختار أن يتداخل مع الهلع جمعه، أن يمنح بعضًا من جسده لغيره حتى لو كان الثمن هو فقدانه هو نفسه.


حولهم، الشوارع صارت متاهةً من الملجأ المؤقت: مقبرة سياراتٍ ملتهبة، أبواب منحنية، نعوشٌ مُرتجلة. الناس الذين ابتلعهم الاحتراق — لم يعودوا سوى ظلٍ يُذكر على جانبين: أسماء تتعلّق بشريطٍ مسجّل يُعاد تشغيله من ذاكرة الجهل. وبالرغم من ذلك، لم يتوقّف أحدٌ عن الحركة، بل إنّ الحركة صارت طقسًا ضدّ الموت: أن تبقى في الطريق أعظم من أن تتراجع.


حين وصلوا إلى ما بقي من شارعٍ رئيسي، رأى حشمت مشهدًا لم يُنسَه: مجموعةٌ من الرجال يجتمعون حول سيارةٍ صغيرةٍ انتُشلت كأنها بقايا جثةٍ، يحثّون على حمل جرحى داخلها رغم أنها لا تكفي. امرأةٌ ترفع ذراعيها تحاول أن تطلب ماءً، فتعطيها امرأةٌ أخرى قطعةً صغيرة من قماشٍ ليمسح الدم بها. كلّهم على شكلهم، على انحناء أعناقهم، على صياحهم الصغير، كانوا جميعًا — فجأة — حاملين كتابًا مكتوبًا بيدٍ واحدة: "لن نستسلم".


حشمت، رغم أنه لم يكن من هؤلاء الناس، شعر باندفاعٍ غريبٍ ينشأ فيه: رغبةٌ في أن يُحدث فرقًا صغيرًا جدًا. حمل الطفل الأكبر الذي يكاد يختنق، وقفز فوق حافةٍ، ضمّه تحت سترته، ثم جرّ المرأة إلى جانبٍ آمنٍ قليلًا. في كل لحظةٍ كان يتنمّر عليها الموت كحارسٍ يمزق لحم الهدوء، لكن حشمت أحكم قبضته على ما بقي من قوتهِ.


وفي طريقه إلى نقطةٍ أخرى، مرّ بمشهدٍ — طفلٌ عالقٌ في ركامٍ، يداه تلتقطان هواءً متقطعًا. حشمت اقترب بسرعة، أدرك أن الوقت أقصر من أن يعطيه أي شكلٍ من الأحلام؛ نزع لوحًا ثقيلاً بجهدٍ شبه كلي، سحب الطفل، وضعه على كتفيه ثم ركض. لم يكن يعرف إنقاذًا، كان يعرف فقط أن يُبقي القلب ينبض. والأصوات حوله صارت مخيفةً أكثر: أصواتُ جنودٍ تأتي من بعيد، صفّاراتُ إنذارٍ مقطوعة، وأنين من لا يزال تحت الأنقاض.


هكذا ساروا — حشمت، المرأة، أولادها، والطفل الذابل — خلال مدينةٍ برداءٍ من دمٍ وأبخرة؛ وكل خطوةٍ كانت شهادة على ما صار ممكنًا في زمنٍ لا يعرف سوى فعل الهروب. لم يكن هناك مكانٌ يختبئون فيه فعليًا؛ كان كل ما يفعلونه يضيف صفحةً واحدة إلى دفترِ يومهم الوحشي: "نجونا اليوم… سنحاول أن ننجو غدًا."


جسدُ حشمت تذكّر كلّ الخدوش كأنما تحولت إلى حكاياتٍ صغيرة: ألمٌ في كتفه، شرخٌ في فخذه، لكن قلبه لم يتوقف عن الضرب بوحشةٍ أقل. لأنه كان يحمل الآن عيونًا تراقبه، آذانًا تنتظر أمره، وأنفاسًا صغيرة تُعلّمه معنىً آخر: أن يقدم نفسه كجسرٍ قصيرٍ للنجاة بين موتٍ آنيٍ وموتٍ طويل.


وعندما تلاشى الأفق وراءهم — أيّة نقطة أملٍ حمراءٍ بعيدة — لم يكن أحدٌ يُصدّق أن المدينة كانت ذات يوم تسرد أسماءً وتبيع خبزًا. فقط ظلّت الصرخات، والأسماء المُنمّطة على شفة طفلٍ، ويدان ارتعشتا على صدر امرأةٍ تحاول أن تسرّع من قدمها كما لو أنّ الحياة قد تفرّ منها إن توقفت لثانيةٍ واحدة.


في نهاية المطاف، لم يكن إنقاذ حشمت للمرأة مجرد فعل إنساني؛ كان مراهنةً على نفسه، توجّهًا بائسًا يجعل من رأسه هدفًا أكبر، من جسده جسرًا يحاول أن يوصِل مخلوقاتٍ صغيرة إلى ضفةٍ أقلّ فناءً. وفي اللحظة التي نظر فيها إلى السماء المحترقة، أدرك أن غزة — أو ما بقي منها — لم تعد مدينةً فحسب، بل كانت مختبرًا عميقًا للإنسانية: من يبقى، ومن يرحل، ومن يرفض أن يُمحَى.


وصل حشمت مندور والمرأة وأطفالها إلى ساحةٍ واسعة، لم تكن في الحقيقة ساحة بل قطعة أرضٍ حُوّلت على عجل إلى نقطة إجلاء. الهواء محمّل بدخان أسود كثيف، كأن السماء تتعمد أن تطمس ملامح البشر حتى لا يتذكروا أنفسهم. الأضواء الصفراء الباهتة للمولدات المحمولة كانت ترسم ظلالًا متقطعة على الوجوه؛ وجوه رجالٍ مصفّرين من التعب، نساءٍ يحتضنّ صغارهن ويتهامسن بالدعاء، وأجسادٍ هامدة مُصطفّة بجانب بعضها كأنها تنتظر إذنًا أخيرًا بالرحيل.


على الأرض، صفوف من الجرحى يتمددون فوق بطاطين رقيقة، صرخاتهم تقطع ضجيج المكان، بينما المسعفون يركضون من جسدٍ إلى آخر، يحملون أدوية بدائية، يُضغطون على نزيفٍ هنا، يثبتون ضمادةً هناك، يصرخون في بعضهم:

ـ "هات الشاش بسرعة!"

ـ "الضغط بيهبط… أمسكه كويس!"


أطفال يبكون وهم يبحثون عن أمهاتهم وسط الجموع، ورجال يرفعون أصواتهم بالدعاء:

ـ "اللهم احفظنا!"

ـ "لن نرحل… سنبقى مهما فعلوا!"


في الجانب الآخر، أصوات تناقضهم، رجال يصرخون بنبرة يائسة:

ـ "النزوح هو النجاة… من يبقى هنا يموت!"


الصوتان يتداخلان، دعوات الصمود ونداءات الهرب، كأن غزة نفسها تنقسم نصفين: نصف يريد أن يقف حتى النهاية، ونصف يريد أن يعيش حتى لو بخطوةٍ بعيدة.


حشمت مندور، وملابسه لا تزال تحمل غبار الركام، وقف وسط الزحام متماسكًا بقدر ما يستطيع. ساعد المرأة وأطفالها على الجلوس في زاويةٍ قريبة من أحد المسعفين. كان يراقب المكان بعينيه الحادتين، عينان صارتا معتادتين على قراءة الفوضى كما يقرأ المرء كتابًا مفتوحًا: هنا موتٌ مؤجل، هناك حياةٌ تُنتزع من أنياب الحديد.


وفجأة، وسط كل هذا الجنون، لمحها. لم تكن الصورة واضحة أول الأمر، مجرد ظلٍ يتحرك بسرعة، يحمل ضماداتٍ وحقن، يركض بين الجرحى. اقترب قليلًا، والصدمة غرزت مسمارًا في صدره. كانت هي. سلوان.


لكنها لم تكن كما رآها أول مرة. لم يكن شعرها منسدلًا على كتفيها مثلما ظل محفورًا في ذاكرته؛ هذه المرة كانت محجبة، رأسها مغطى بطرحةٍ قاتمة، عيناها هما ما فضحاها. نفس البريق المتمرد، نفس اللمعة التي رآها ذات ليلة جعلته يعبر نصف العالم. لم يحتج إلى اسمٍ يُقال، ولا إلى صوتٍ ينادي. عرفها، كما يُعرف الوجه الوحيد في حشدٍ لا ينتهي.


سلوان كانت تركض بين الجرحى بخفةٍ لا تشبه الدمار حولها. يداها تلطختا بالدم، ملابسها مليئة بالغبار، لكن كل حركةٍ منها كانت تعطي إحساسًا بأنها أقوى من الخراب نفسه. تُطمئن امرأةً ممددة، تضع ضمادةً على رأس طفلٍ، تصرخ في وجه رجلٍ يساعدها:

ـ "اثبت إيدك! هو بينزف يا أخي!"


حشمت وقف متخشبًا، كأن المكان كله سقط من حوله، ولم يبقَ سوى وجهها. لم يسمع صرخات الأطباء ولا أنين الجرحى للحظة، بل سمع فقط صوت قلبه وهو يضرب صدره بوحشية. أراد أن يقترب، أن ينطق باسمها، لكن لسانه انعقد، وخطواته تثاقلت. كان جزء منه يخشى أن تراه فلا تتعرف عليه، وجزء آخر يخشى أن تعترف به فتنكره.


المرأة التي أنقذها مع أولادها أمسكت بكمه وهمست:

ـ "الله يبارك لك… تعبت معانا كتير."


لكنه لم يرد. كان عقله كله قد انحصر في نقطةٍ واحدة وسط الزحام، في سلوان التي عادت له بشكلٍ لم يتخيله. لم يعد يرى المدينة مدينة موت فقط، صار يرى فيها سببًا جديدًا كي يظل واقفًا، رغم الدم، رغم الصرخات، رغم الجثث المرصوصة.


سلوان… هنا.


صدحت أصوات من قلب الحشد، أصواتٌ لم تكن صادرةً عن رجلٍ واحدٍ بل عن مجموعٍ من الرجال والنساء الذين ربطوا وسطهم رايةً بالية ولم يفقدوا الإيمان. ظهروا فجأة على منصةٍ مرتجلةٍ بين الأكوام: شبابٌ بملامحٍ متعبة، ربات بيووت تمدّ أياديهن بالمعونة، شيوخٌ تكوّنت بين عيونهم خطوط المآسي. رفع أحدهم ميكروفونًا خاملاً، ثم انفجر صوته في الميدان:


ـ اصمدوا! اخوتنا… الحق لن يطول. العدو يظن أنه يشترى الأرض بالنار، لكن الأرض لن تُباع! نحن هنا، نحرس، ونردع، ولن يسمحوا لنا أن نُمحى!


هتفت النسوة، وارتفع صوت الترديد، وكانت كلماتهم تتصاعد كشرارةٍ ضد الظلام: «لن نستسلم»، «هذه أرضنا»، «سيعلمون أننا لا نرحل». بين هذه الهتافات وقفت وجوهٌ تغمرها الحزن، لكنها لم تخنِ بصيص الأمل؛ كانوا يصرخون كمن يرفض أن يُسجل اسمه كخسارة فقط.


وسط هذا الزخم من الكلمات المفعمة بالقوة، تضخّم صوتٌ آخر — ليس لخطابٍ منظَّم، بل لصوتٍ واعٍ مختطفٍ بالغضب. اندفع حشمت مندور من بين الركام، جسده لا يزال يحمل أثر الدخان والتراب، عيونه ملتهبة كما لو أن نارًا تكمن داخله. اقتحم الساحة، صرير حذائه على الحصى طرزانًا، ثم وقف مواجهًا منصة المُتحدثين، قائلاً بصوتٍ جهورٍ كأنه يصرخ في وجه قدرٍ مشيّ:


ـ اصمتوا عن الكلام الفارغ! النزوح نحو الجنوب الآن هو الأمان الوحيد! من يظلّ هنا لا ينتظر غير أن يتحول إلى جثة هامدة!


تحوّل صدى كلامه فورًا إلى موجةٍ من الاندهاش والغضب. بعضهم صمتوا، آخرون ردّوا بالسباب، واندفعت مجموعة من عناصر المقاومة تحيطون به من كل جانب كدائرةٍ تقفل. بوجوهٍ صلبةٍ، وضع أحدهم يده على حديد سلاحه، وسخرية السمعة كانت في نبرة صوته:


ـ ومن أنت لتقرر مصائرنا أيها الرجل؟ من أنت حتى تقول لنا أن نصمت عن الصمود؟ ماذا تعرف أكثر منا؟


نظر حشمت في وجوههم الواحدة تلو الأخرى، رأى في أعينهم ثقةً بلا برهان وخوفًا مدفونًا، فأجابهم بحدة لا تخلو من المرارة:


ـ رأيت ما يكفي من الدماء في طريقي. رأيت العدو لا يرحم: يقتل الجرحى، يقتل المرضى، يطلق النار على الأطفال. رأيتهم يتركون أهلًا تحت الركام بلا ماء، بلا دواء. أنا جئت من أقرب نقطة التقاءٍ مع الخصم. أقول لكم: من يبقى سيكون فقط جزءًا من أرقامٍ تُحصى لاحقًا!


عاد صدى كلامه يضرب صدر الساحة. بعض من حوله ارتعش لجرأته؛ آخرون رأوا فيه تهديدًا لكلامٍ بنوا عليه أملهم. حاول أحد القادة أن يهمّ بذمّ هتافه، فتقدّم بخطوةٍ كمن يريد أن يعيد المياه إلى مجراها:


ـ كلامك يفتت الأمل يا رجل. نحن نُحارب من أجل أن تبقى الناس هنا، لننقذ ما نستطيع… الهروب الآن؟ أي هروب هذا؟ سنترك بيوتنا؟ سنترك دماء من أحببناهم؟!


اشتدّ النقاش، أصواتٌ ترتفع وتتنافر. ثم، في ذروة اللحظة، ارتفعت من بين الضجيج صرخةٌ حادّة — صوت المرأة التي جاءت مع حشمت إلى نقطة الإخلاء. اندفعت نحو الحشد، ودمعها يقطر على خدّها، لكن كلماتها كانت صريحةً، لا تختبئ خلف شعارات:


ـ لا تجلدوه قبل أن تسمعوا! الرجل يقول الحقيقة! هو لم يكذب. رأينا بأم أعيننا ما يقوله… العيون التي شاهدتنا على الطريق لن تكذب!


تلك الصرخة كانت كقنبلةٍ ثانية؛ أزاحت بعضًا من الزوبعة، أجّجت قسمًا من البشر داخل الساحة الذين قدّموا منذ ساعات أنفسهم على محكّ النجاة. الجدل هدأ للحظةٍ بينما ينظر الجميع إلى المرأة، ثم التفتت العيون صوب ظلٍ يتحرَّك بين الجموع — ظِلٌّ رأته عين حشمت قبلُ كثيرًا: سلوان.


كانت قد ظهرت فجأة، تخرج من بين المجدّدين، وجهها مغطىٌ بطرحةٍ متسخة لكنه كان فيها ما يوحّدها مع الناس: العجلة، والضمادات، وفتيلةٌ من حزنٍ لا تفارقها. عندما تقدّمت، لم ترفع صوتها بالنداء؛ اكتفت بالنظر إلى حشمت لثوانٍ، ثم خاطبت قيادي المقاومة بصوتٍ هادئ لكنه ثابت:


ـ اهدئوا. هذا الرجل… أعرفه. لا تحتاجون أن تضعوه في السجن هنا. لو رأيتموه يتعامل مع الصغار، لو رأيتموه يجرّ المصابين بين الدمار بنفسه، لما تساءلتم عنه. دعوه؛ سنأخذه بعيدًا عن طرقنا لأن لنا خططنا، ولا نريد أن تلتصقوا به… لكن إن كان يملك نية الخيانة فلن نهرب منها.


كانت كلمتها تُطفئ بعضًا من الحرارة؛ في حنكتها الاطمئنان المباغت لاح له في بعض الوجوه. قياديٌ آخر تقدم، عيناه لا تخفيان الشك، لكن في صوته برودة القرار:


ـ إن سمعنا منه سببًا عقلانيًا لنأخذه للمركز ونقرّره. وإن ثبت غير ذلك… فالشارع ليس ملاذًا لمن يثير فتنة. نتحرى الحذر، لا نفعل ما نندم عليه.


صمتٌ حاسِم خيَّم لبرهة؛ الناس تستعيد أنفاسها كما لو أن الهواء نفسه أعاد ترتيب أوصاله. المرأة التي دافعت عن حشمت تجمّدت، وسلوان نظرت إلى حشمت لمحةً قصيرةً، كلماتها تختصر كل شيء:


ـ خذه بعيدًا. ليس لأننا نثق به كليا، بل لأننا نعرف أن هنا سيقتل نفسه ويقتل الآخرين إن أُجبر على الصراع معنا الآن. أُخذه، ثم ندقق.


لم يرفض حشمت، ولم يبتسم. كان يعرف أن النجاة لا تُنتزع إلا بصفقاتٍ صغيرة، وبقليل من الحيلة والدهاء. ترك الحشد، مع بعض الرجال الذين طلبت منهم سلوان أن يرافقوه. انحنى رأسه بينما الناس تنقسم حوله: مؤيّدون خائفون، ومعارضون حاقدون، ومتفرجون تائهون. في قلبه، لم يكن يبحث عن تأييدٍ بقدر ما كان يطلب أن يتوقف القصف عن ابتلاع المزيد. خرج من الساحة ومعه سلوان والمرأة، وخلفه – بين صفوف الحضور – ظلّت الكلمات معلقة: «هل الصمود واجب أم موت مُؤجل؟»


تسللت سلوان من بين الوجوه المتوترة، نظراتها ثابتة كأنها تعرف طريقها وسط الزحام. حين اقتربت من حشمت مندور، لم تترك له فرصة للرفض أو الاعتراض، أمسكت بذراعه وقالت بسرعة باللهجة المصرية:


ــ تعالى معايا… هنا مش أمان، ولازم نتحرك دلوقتي.


لم يعلّق، فقط رمقها بنظرة طويلة، تلك النظرة التي تزن المواقف وتعرف جيدًا أن لا أحد يغامر بإمساك ذراعه إلا لو كان صادقًا. ترك نفسه ينقاد، وإن بدا فى عينيه ذلك البريق العنيد الذى لا يخمد.


سارا معًا عبر طرق جانبية، الشوارع خالية إلا من الركام، أضواء بعيدة ترسم ظلالًا متكسرة على الجدران المحطمة. كلما مرّا بجثةٍ مسجّاة أو صرخة جريح، كان قلب حشمت يشتعل أكثر، لكنه ظل صامتًا، يتابع خطوات سلوان كأنه يثق بها رغم كل حذره.


حين وصلا إلى بيتٍ صغير فى طرف الجنوب، منزوع الأبواب والنوافذ، دخلت سلوان أولًا، ثم أشارت له بالجلوس. وضعت حقيبتها على الأرض، وأخذت نفسًا عميقًا، كأنها أخيرًا تترك ثقلًا من على كتفيها.


التفتت نحوه، وعيناها تلمعان بتوتر لم تنجح فى إخفائه:

ــ إنت دايمًا كده يا حشمت… عنيد، بترفض تبقى تابع لحد، حتى لو كان ثمن ده حياتك.


أشعل سيجارة ببطء، نفث دخانها، ثم قال بهدوء:

ــ يمكن علشان تعوّدت أشوف الدنيا من غير سند… الواحد بيتعلم يواجه لوحده.


اقتربت منه بخطوة، صوته جعل قلبها يرتجف رغم قوتها. سألته بصوت خافت، لكن يحمل كل الحيرة:

ــ طب ليه جيت هنا؟ ليه اخترت غزة وسط الجحيم ده؟


توقف لحظة، رمقها، وكأن الكلمات تتثاقل على لسانه:

ــ جيت… علشان أدور على حاجة تخليني أصدق إني لسه عايش. يمكن كنت بدور على وشّ… أو معنى.


أطرقت سلوان برأسها، وابتسمت ابتسامة صغيرة مرتعشة:

ــ طول عمرك غامض… بس الغموض ده هو اللي بيشدك للجحيم، مش بيبعدك عنه.


اقتربت أكثر، جلست إلى جواره، كأنها تستسلم للحظة رغم معرفتها أن الغد قد يمحوها. قالت بصوت يحمل دفء وإصرار معًا:

ــ خلاص، مش هسيبك تمشى لوحدك تاني انا هوصلك لبر الأمان ذى ما عملت معايا، الحرب دى مش حربك وانا هرجعك بلدك

همس حشمت مندور ،انتى غلطانه يا سلوان

الحرب مش حربكم لوحدكم دى حربنا كلنا ،يمكن انا مجتش هنا عشان احارب ولا اكون بطل او شهيد لكن خلاص مينفعش أرجع تانى، انا هعيش واموت هنا


ارتفع حاجب سلوان دوان إرادتها وهمست ونا مش هسيبك لوحدك 


ظل ينظر إليها طويلًا، وفي عينيه شرود وحزن عميق، لكن مع ابتسامة خافتة كأنها أول اعتراف غير منطوق: أنه وجد أخيرًا من يجرؤ أن تمشي بجواره فى قلب الجحيم.


                  ندى


منذ أن اتخذت ندى قرارها بالانسحاب من فكرة الزواج، عادت إلى مقاعد الجامعة بوعي مختلف. كانت قاعات المحاضرات بالنسبة لها ساحة إثبات وليست مجرد جدران جامدة. جلست دائمًا في المقاعد الأمامية، تكتب ملاحظاتها بتركيز لا يلين، وتتابع الشرح وكأنها تخزن كل كلمة في أعماقها لتعود إليها في لحظة الحسم.


كانت تراه أحيانًا، جاسم، يمر من أمامها أو يجلس بعيدًا في القاعة، يتحدث مع زملاء آخرين أو ينشغل بأوراقه. وكأنه لم يعرفها يومًا، وكأن ما جرى بينهما لم يكن سوى خيال عابر. لم يحاول الاقتراب، لم ينظر في عينيها، حتى لم يتبادل معها التحية. هذا التجاهل كان موجعًا في البداية، لكنه مع الوقت صار وقودًا يدفعها إلى الأمام. كانت تردد في داخلها: "أنا لا أحتاج أن يراني… سأجعل العالم كله يراني."


حين جاءت امتحانات نصف العام، كان الليل صديقها الأوفى. جلست بين كتبها وأوراقها، عيناها متورمتان من السهر، لكن عقلها حاضر كالحد السيف. كتبت حتى شعرت أن القلم صار جزءًا من يدها. وعندما أعلنت النتائج، صعد اسمها إلى لوحة الشرف في المركز الثاني على الدفعة. لحظة رأته فيها شعرت بشيء يتفتح بداخلها، كأنها تنتزع اعترافًا لم تحتج أن يأتي من أحد.


لكنها لم تكتفِ. واصلت السير بنفس الإصرار، كأن المركز الثاني كان مجرد محطة، لا نهاية. عادت إلى محاضراتها بحماس أكبر، شاركت في المناقشات، تجرأت على طرح الأسئلة التي كان الآخرون يترددون في طرحها. بدأت وجوه الأساتذة تلتفت نحوها، وأسماء زملائها تهمس بأنها واحدة من المتفوقات الذين يُنتظر لهم مستقبل مختلف.


حتى إذا حلّ الترم الثاني، كان داخلها قد اشتد صلابة. لم تعد تقيس ذاتها بردود الأفعال، بل بما تحققه بيديها. في كل امتحان كانت تجلس بثقة، تكتب كما لو أنها تحاور الورق وتنتصر عليه. وعندما أُعلنت نتائج نهاية العام، جاء اسمها مرة أخرى في المركز الثاني على الدفعة.


لم يكن ذلك مجرد تفوق عابر، بل إعلان واضح: أن ندى التي أرادت شاهندة أن تحصرها في دور "الفتاة الصغيرة" قد قررت أن تكون أكبر من كل الأحكام.


في اللحظة التي سارت فيها ندى في ممر الكلية، وهي ترى زميلاتها يبتسمن بفخر لنجاحها، لمحت جاسم من بعيد. كان يتحدث مع بعض الطلاب وكأنها لم تكن هناك. ابتسمت بهدوء، لأول مرة دون مرارة. لم تعد تحتاج نظرته، لأنها أخيرًا وجدت قيمتها في نفسها لا في عينيه.


لم يطل الوقت كثيرًا بعد قرار ندى برفض الزواج من جاسم حتى تغيّرت ملامح البيت الكبير. شاهندة لم تعد تخفي ضيقها، لكنها وجدت عزاءها في ترتيبات زواج ابنها جاسم من لارا ابنة رجل الأعمال رفعت الشماخ. كان زواجًا يُعقد في قاعة فخمة بأحد فنادق القاهرة، تحضره الوجوه المتأنقة والأسماء اللامعة، وكأنه صفقة أكثر من كونه رباطًا.


جاسم في تلك الليلة بدا مشغولًا بالتصوير والتحية أكثر من انشغاله بالعروس. ابتسامته محسوبة، خطواته مرسومة، وصوته يخرج من صدره آليًا: "أهلاً… شرفتونا". لم يكن في عينيه شيء يُشبه ذلك الشاب الذي كان يقف يومًا ما على أعتاب بيت جده، يبحث عن ردٍّ من ندى. بدا كأنها صفحة أُغلقت بالقوة، أو بالأحرى أُحرقت.


ندى لم تحضر. اكتفت بمتابعة الخبر من بعيد، عبر أحاديث الجيران ولمحات الصور المنتشرة على الشاشات. لم يهتزّ قلبها كما توقّعت شاهندة، بل وجدت نفسها أكثر إصرارًا على ما بدأت فيه: أن تبني حياتها وحدها، بلا سند سوى إصرارها وعقلها.


مرّت السنوات سريعًا كأنها سباق طويل، كل عام يضعها أمام تحدٍ جديد. العام الثاني في الجامعة، ثم الثالث، حتى وصلت إلى العام الرابع والأخير.

كانت محاضراتها أكثر كثافة، والليالي أطول مع الكتب والمراجع. زملاؤها انشغلوا بالخطوبة والرحلات، أما هي فكانت تعرف أن لحظة إثباتها اقتربت.


لم تعد تلتفت إلى جاسم. كانت تراه أحيانًا في زيارات عابرة لبيت الجد، لكنه بدا كأنه لا يراها أصلًا. نظراته تمرّ عليها كما تمرّ على قطعة أثاث قديم اعتاد وجوده. لم يؤلمها الأمر بقدر ما حرّرها. لم تعد تنتظر منه شيئًا، لا كلمة، لا عتاب، ولا حتى اهتمام زائف.


في آخر عام، اجتازت امتحانات منتصف العام بثبات، ثم انغمست أكثر فأكثر في التحضير للامتحانات النهائية. كانت تكتب ملاحظاتها بخط دقيق، تراجعها صباحًا ومساءً، كأنها تخوض معركة شخصية، معركة لإثبات ذاتها أمام نفسها أولًا، ثم أمام العالم كله.


وجاءت الأيام الحاسمة. الامتحان الأخير. تلك اللحظة التي تختصر أربع سنوات من التعب، وسنوات أطول من التحديات منذ طفولتها. جلست ندى في القاعة الواسعة، أوراق الامتحان بين يديها، قلبها يضرب بإيقاع مختلف. لم يكن خوفًا، بل مزيجًا من الحماس والإصرار.


رفعت رأسها لحظة، تنظر إلى الوجوه حولها، ثم عادت إلى ورقتها. كتبت… كتبت وكأن كل حرف يثبت أنها لم تكن يومًا "فتاة بلا قيمة". وعندما وضعت القلم أخيرًا، شعرت لأول مرة أنها حررت نفسها من سجن طويل، وأن الطريق أمامها صار مفتوحًا على احتمالات جديدة.


خرجت من القاعة، الهواء يلفح وجهها ببرودة غريبة. ابتسمت لنفسها، ورفعت عينيها نحو السماء:

– "خلصت… خلاص."


كانت تعرف أن النتيجة لم تعد مجرّد درجات، بل شهادة على أنها استطاعت الصمود، وأكملت الطريق حتى النهاية.


وفي بيت الجد، حين جلست في المساء، شعرت أن الصمت هذه المرة مختلف. لم يكن صمت الانكسار، بل صمت انتظار

ما سيكون.

يتبع...

رواية أعلنت الحرب على قلبي الفصل السابع والعشرون 27 من هنا

رواية أعلنت الحرب على قلبي كاملة من هنا

روايات الخلاصة ✨🪶♥️
روايات الخلاصة ✨🪶♥️
تعليقات