رواية أعلنت الحرب على قلبي عبر روايات الخلاصة بقلم إسماعيل موسى
رواية أعلنت الحرب على قلبي الفصل الخامس والعشرون 25
جلس حشمت مندور على الكرسي المعدني في منتصف الغرفة الضيقة، يديه مكبلتان أمامه، وإضاءة باهتة تتسرب من مصباح معلق يهتز مع كل حركة. الصمت كان يطبق على المكان حتى اخترقه صوت رجل يجلس قبالته، صوته عميق، يخرج ببطء لكنه يجرح مثل السكين:
– من أنت ؟
رفع حشمت رأسه ببطء، مسح الدم المتجمد عن جبينه بابتسامة ساخرة:
حشمت:
ارتسمت ابتسامة باهتة على فم الرجل، ثم قال بسخرية:
ماذا تفعل هنا؟
ثبت حشمت نظرة لحظه، مجرد عابر سبيل
– رجل عابر؟! يظهر وسط المعركة، يركض خلف الجنود، يعرف كيف يتفادى الرصاص كأنه عاش عمره في ساحات التدريب؟ لا أحد يبتلع هذه الحكاية يا حشمت.
أمال حشمت رأسه قليلاً، كأنه يزن كلماته:
– ربما لم تعتادوا رؤية رجل لا يخاف الموت… هذا كل ما في الأمر.
اقترب المحقق من الطاولة، صوته صار أكثر جدية:
– دعك من الشعارات الرنانه ،تعلم انك بين اناس لا يهابون الموت … لماذا جئت إلى هنا؟ من أتى بك إلى غ_زة؟
انعكس الشرود في عيني حشمت لحظة، لكنه أخفاه بابتسامة باردة:
– جئت لأسباب تخصني… أسباب لا تعنيكم.
ضرب الرجل الطاولة بيده بقوة، فارتج المصباح المعلق، لكنه سرعان ما استعاد هدوءه:
– إذن تخفي شيئًا… وهذا ما نريد أن نعرفه.
ضغط حشمت جسده للخلف حتى صرخ الجرح في كتفه، لكنه لم يُظهر سوى السخرية:
– أنتم تبحثون عن أسرار غير موجودة. لو أردت خداعكم ما جلست أمامكم الآن. أنا لا أعرف إلا طريقًا واحدًا… أواجهه.
اقترب الرجل أكثر، صوته منخفض، لكنه محمَّل بالتهديد المبطن:
– صدقني يا حشمت… لو كذبت سنعرف، ولو صدقت سنعرف أيضًا. المسألة ليست في كلماتك، بل في قدرتك على التحمل
ابتسم حشمت ابتسامة نصفية، وعيناه تلمعان ببرود:
– الثبات… هو الشيء الوحيد الذي لم يفلح أحد في نزعه مني. لا جنود، ولا دبابات، ولا حتى أنتم.
ساد صمت ثقيل في الغرفة، حتى بدت الجدران وكأنها تضيق على الاثنين. نهض المحقق أخيرًا، ووقف عند الباب قبل أن يقول ببطء:
– سيستمر التحقيق غدًا. نرى كم سيحتمل لسانك… قبل أن يفضح هويتك
تركه ومضى. ابتسم حشمت ابتسامة ساخرة وهو يحدّق في الفراغ، يهمس لنفسه:
– هم يبحثون عن جاسوس… وأنا لم آت إلا من أجل وجه واحد. لكن القدر ساقني إلى حفرة الذئاب.
وُضعت غمامة سوداء على عيني حشمت مندور، فابتلع المكان نوره القليل، ولم يبقَ أمامه سوى العتمة الملاصقة لجفونه. سُحب إلى غرفة أخرى، خطوات خشنة تتردد في الصمت، ثم أُجلس بقوة على الكرسي المعدني نفسه، يديه مكبلتان كما كان.
لم يطل الانتظار؛ صوت جديد اخترق السكون. كان الصوت أعنف، أكثر قسوة، وكأن كل كلمة تخرج منه بوزن المطرقة:
المحقق الجديد:
– ما اسمك الحقيقي؟
ابتسم حشمت، رغم أنه لم يرَ من يحدثه، وقال ببرود:
– قلتها مئة مرة… اسمي حشمت مندور.
ضرب الصوت الجدار خلفه بقبضة معدنية، فاهتزت الغرفة وصدى العنف ارتطم في أذن حشمت:
– لا تساومني بالأسماء. نحن لا نهتم بما تدعيه. نحن نريد أن نعرف: من أرسلك؟
حرك حشمت كتفيه المكبلين ببطء، كأنما يمدد عضلاته تحت قيد الألم، ثم قال بابتسامة ساخرة لم يرها أحد:
– أرسلتني قدماي… وما أبعدتهما عن الموت جئت أسعى إليه.
ضحك الصوت القاسي، ضحكة قصيرة أشبه بالازدراء:
– تريد أن تموت هنا إذن؟ الموت عندنا رخيص، لكنه ليس هدية توزّع بلا مقابل.
صمت حشمت لحظة، ثم قال:
– لستم أنتم من يقرر موتي… ولا حياتي.
اقترب الصوت حتى صار الأنفاس حادة، ساخنة تلسع أذن حشمت من تحت الغمامة:
– إذن اسمعني جيدًا… كل من جلس على هذا الكرسي، تكلم في النهاية. لا يهمني قوتك ولا كبرياؤك. يهمني شيء واحد فقط: لماذا أنت هنا؟
أخذ حشمت نفسًا عميقًا، كأنما يستجمع داخله شيئًا ما، ثم قال ببطء:
– أنا هنا… لأننى أردت أن أكون هنا ولى اسبابى الخاصه التى لا تعنيكم
سكت لحظة، ثم أضاف بصوت منخفض كأنه يحدّث نفسه أكثر مما يجيب:
– ولأن هناك وجهًا واحدًا لا يغيب عني… حتى وسط كل هذا الدخان والدم.
ساد الصمت. لم يعلّق المحقق، لكنه ظل واقفًا خلف الغمامة، يراقب أنفاس الرجل الذي أمامه. ثم قال ببرود:
– إذن سنستمر. يوم بعد يوم… حتى نعرف، أو حتى تنهار.
رد حشمت بابتسامة لم تُرَ، لكن صداها خرج من صوته:
– جربوا… أنا لا أنهار
هل يمكنك أن تمنحنى سيجاره وأخبرك بمعلومه مهمه ؟
تردد الرجل لحظه ثم اشعل سيجاره ووضعها فى فم حشمت مندور وانتظر
تنهد حشمت وهو يبتلع الدخان كجائع لم يذق الطعام منذ عام
لن تحصلو على شيء منى الا اذا قررت انا ان امنحه
قال الرجل بغضب، سنحصل على ما نريده ،نفعل ذلك دوما
اقول لك شيء؟ ورفع حشمت مندور يده، امنحنى بندقيه او اربجيه والقى بى فى وسط أبناء الخنازير واتركنى لحظى
حينها يحصل كل منا على مبتغاه
اطلق الرجل ابتسامه ساخره ثم ترك حشمت وغادر الغرفه
وُضع حشمت مندور في الغرفة الضيقة ذات الجدران العارية، دون تحقيق، دون أسئلة، دون حتى صوت خطوات في الممر. في البداية ظنها استراحة، هدنة قصيرة قبل جولة أخرى من الاستجواب. لكنه سرعان ما أدرك أن الصمت نفسه صار التحقيق الأشد قسوة.
مرت ساعات طويلة لم يسمع فيها سوى أنفاسه، وصرير قيوده حين يحاول تغيير جلسته. لم يطرق أحد الباب، لم يدخل طعام ولا ماء إلا في أوقات غير منتظمة، حتى بدأ يفقد الإحساس بالزمن.
جلس على طرف السرير المعدني، يحدق في المصباح الوحيد الذي لم يُشعل منذ أن تركوه. العتمة كانت تزداد لزوجة، كأنها مادة تلتصق بجلده وعقله معًا.
في اليوم الثالث ـ أو ربما الخامس، لم يعد يعرف ـ بدأ يسمع أصواتًا لا وجود لها: وقع أقدام تقترب ثم تختفي فجأة، همسًا خلف الجدار، صرير مفتاح لم يدخل القفل. كان ينهض في كل مرة، يصرخ:
حشمت:
– أنا هنا… سامعكم… مش هتقدروا تلعبوا بيا!
لكن لا إجابة. فقط الصمت يعود أثقل مما كان.
بدأ عقله يشتعل بالأسئلة:
هل رحلوا فعلًا؟
هل تركوه ليموت وحده هنا؟
أم أنهم يراقبونه من ثقب صغير، يتسلّون بارتباكه؟
كان يضحك فجأة، ضحكة قصيرة مجنونة، ثم يدفن وجهه بين كفيه:
ومع ذلك، كل ليلة كانت أصعب من سابقتها. الجوع لا يقتله، العطش لا يهزمه، لكن الفراغ… الفراغ الذي يتسع حوله كهوّة كان يبتلعه ببطء.
بدأ يتذكر وجوهًا غائبة. سلوان وهي تبتسم على الحدود. ندى ودموعها حين انهارت. أعداؤه، حتى الذين قتلهم… كلهم عادوا يجلسون معه في الغرفة، يتهامسون ويسخرون من وحدته.
مدد جسده على السرير، يحدّث نفسه بصوت خافت:
حشمت:
– يمكن يكون ده الاختبار… مش الرصاص، مش التحقيق… الاختبار الحقيقي إنهم يسيبوك مع نفسك… ساعتها يا تقتل نفسك… يا تثبت إنك أقوى من صمت الدنيا.
ثم أطلق زفرة طويلة، وأدار رأسه نحو الباب المغلق، كأنما يتحدى من خلفه ولو لم يكن هناك أحد:
حشمت:
– ما تخافوش… لسه بدري أوي قبل ما تكسّروني....
ندى
دخلت ندى غرفتها بعد المواجهة القاسية مع شاهندة، صدرها يعلو ويهبط بسرعة، وعيناها تلمعان بدموع لم تسقط بعد. جلست على طرف السرير، كأن جسدها ثقيل لا يقوى على الحركة، لكن عقلها كان مشتعلاً. كلمات شاهندة ترن فى رأسها: "أنتِ مجرد فتاه تافهه … ولن تكوني يومًا ذات قيمه
ارتجفت أناملها وهي تضغط على الغطاء، لكنها لم تبكِ. لأول مرة منذ زمن، شعرت أن دموعها لن تُغير شيئًا. ما عاد البكاء يكسر الحواجز التي تقيمها شاهندة والعالم ضدها . كان عليها أن تفعل شيئًا آخر… شيئًا يمنحها قيمة حقيقية، قيمة لا يمكن لأحد أن ينكرها.
همست لنفسها بصوت متقطع:
"أنا مش هبقى ظلّ… مش هعيش فى الهامش. لازم أكون حدّ… لازم أكون قيمة."
كأن صوتها الداخلي يعلو، يتحول من ارتعاش إلى يقين. تخيّلت نفسها واقفة فى قاعة الجامعة، تلقي محاضرة، الطلاب ينصتون إليها، أسماؤها تُكتب فى الأوراق، ويُقال: "الدكتورة ندى"… حينها فقط، شعرت أن وجودها لن يُمحى، وأنها تستطيع أن تفرض نفسها حتى على شاهندة.
رفعت رأسها نحو المرآة، وجدت فتاةً شاحبة لكنها أكثر ثباتًا مما كانت يوم دخلت هذا البيت. تحدثت إلى انعكاسها بصلابة لم تعرفها من قبل:
"أنا مش هتجوز جاسم… ولا أي حد تانى.
وفي صباح اليوم التالي، حين جلست أمام جدها، لم تكن ابنة مترددة تبحث عن مأوى، بل امرأة تتشكل. نظر إليها الجد مطولًا قبل أن يسألها بصوته الوقور:
"ندى… قولتى ايه فى موضوع جاسم ابن عمك؟
ارتسمت ابتسامة صغيرة على شفتيها، لكنها كانت ابتسامة مُرة، ممتزجة بحزن وقرار نهائي:
"جدي…. أنا مش هتجوز جاسم… ولا غيره دلوقتي. أنا عايزة أكمل دراستي.… وأبني قيمة لذاتي."
سكت الجد طويلًا، عيناه تتأملانها كأنه يراها لأول مرة. لم تكن الطفلة المتمردة، ولا اليتيمة المكسورة، بل امرأة شابة تعرف ما تريد.
ابتسم بخفة، وفي عينيه ظل قلق دفين:
أنا هكون جنبك." اى كان القرار إلى اخترتية يا بنت ولدى
حينها فقط، سمحت ندى لدمعة وحيدة أن تنزلق على وجنتها.
في ذلك المساء، دخل جاسم بيت جده بخطوات مترددة، لكنه بدا مصممًا على المواجهة. كان الجد جالسًا في المجلس، والهدوء يغلف المكان ،لم يمض وقت طويل حتى ظهرت ندى من داخل الغرفة، ترتدي ثوبًا بسيطًا، وملامحها مرهقة لكنها ثابتة بعد أن اخبره الجد برفض ندى للزواج
تبادل جاسم معها نظرة سريعة، ثم اقترب خطوة:
"ندى… لازم أسمع منك كلمة واحدة. ليه رفضتِ؟"
ظلت واقفة مكانها، يداها متشابكتان أمامها، ونظرتها مباشرة نحوه، بلا هروب ولا ارتباك. صمتها كان أثقل من أي كلمات.
اقترب أكثر، صوته يحمل رجاءً ممزوجًا بغضب مكتوم:
"هل هو قرارك… ولا في حد ضغط عليك؟"
تنفست بعمق، ثم قالت ببرود واضح:
"يا جاسم… القرار قراري. ومش هشرح، ولا هبرر. أنا اخترت طريقي، وأنت مش جزء منه."
انقبض وجهه، كأن الكلمات أصابته في عمق قلبه. حاول أن يستعيد هدوءه:
"ندى… أنا مش غريب عنك. أنا ابن عمك. كان ممكن نبدأ من جديد."
هزت رأسها ببطء، ونبرتها قاطعة:
"بلاش تحاول. الموضوع منتهي."
عمّ الصمت المكان، حتى الجد الذي كان يتابع المشهد بصمته الحكيم، لم يتدخل. بدا وكأنه يترك الموقف يأخذ مداه الطبيعي.
جاسم أدار وجهه نحو جده، ثم عاد بنظره إلى ندى، وكأن عينيه تبحثان عن شرخ صغير في صلابتها، لكنه لم يجد شيئًا. هي لم تبكِ، لم تتوسل، ولم تحاول التخفيف من قسوة ردها.
تنفس جاسم بحدة، ثم قال بصوت متهدج:
"تمام… لو دي رغبتك، أنا مش هقف قصادها. لكن كنت أتمنى تسمحيلي أفهم."
استدارت ندى مبتعدة، خطواتها ثابتة، وكأنها تُغلق الباب وراءه بلا عودة.
بقي جاسم واقفًا في منتصف المجلس، ينظر إلى الفراغ، والجد يراقبه بصمت، كأنه يعرف أن هذه لحظة فاصلة لن تُمحى من قلب حفيده بسهولة.
حشمت مندور
بعد السابع من أكتوبر تغيَّرت السماء. لم تعد السماء مجرد قماشٍ أزرقٍ يمرُّ عبره طيورٌ وبخور، بل أصبحت شاشةً ضبَّت عليها أضواء متقطِّعة، تومض، تختفي، ثم تعود، وكأن المدينة تُراقَب بعين لا تُغفل.
الصوت الأول كان صدمة. صفّارات، ثم هدير طائرات، ثم انفجارٌ يقطع الهواء كأنه قاطع زجاج. المبانى التي عرفتها سلوان وجيرانها طأطأت رقابها وانهارت، ركامٌ جديدٌ يكتب أسماءً لا أحد يسأل عن صحتها. الشوارع التي كانت تعبق بخُبزٍ وزعيتر ومقاطع أطفال تضحك، خلَّفَت وراءها غياباً ممتداً: واجهات محلات محرّقة، مقاعٍ فارغة، عربات صغيرة مُقلوبة.
الكهرباء انقطعت كأنها شجرة قُطعت من أصلها؛ أعمدةٌ سودت، مولداتٌ تهتزّ بلا توقف عند المستشفيات، أصواتها مثل نحيبٍ ميكانيكي. الماء بدأ يُصبح سلعةً مكتوبة على كفِّ اليد: صهاريج تجوب الأزقة، طوابير طويلة من النساء والرّجال الذين يحملون عبواتهم، ووجوهٌ بلا وعود. المطارق اختفت، لكن آثارها بقت: غرفٌ ضيقةٌ تحولت إلى مشافٍ ميدانية، وأطفالٌ ينامون على أغطيةٍ داخل مدارسٍ وكنائسٍ تحوَّلت ملاجئ.
المواصلات توقفت حين توقفت الطرق؛ طريق واحدٍ يفتح، وطريق آخر يُغلق. الخرائط القديمة لم تعد تنفع. السكان تعلموا لغةً جديدة: أين الممرّات الآمنة؟ متى يهدأ القصف؟ أي نافذةٍ من المنزل يمكن استخدامها كدرعٍ مؤقَّت؟ أحيانًا كان الجواب مجرد وهم.
المستشفيات امتلأت؛ لم تعد غرفة الطوارئ قادرة على امتصاص سوى جزءٍ صغيرٍ من الألم. الأطباء والممرضات صارت لهم وجوهٌ مُرهقة تذكّرك بأنهم بشر. أصوات الطلبات تتصاعد: سرنجة، غرز، كمّادات، شيء لإيقاف النزيف. الناس يقفون في ممرات طويلة يحملون أرقام هواتف لم تُجب منذ ساعتين، ثم يُسقطون رؤوسهم على الأكياس كما لو أن النوم أقرب من الكلام.
الهواتف النقالة لم تعد وسيلةً للرفاهية، بل موصلٌ إلى حقيقةٍ لا تحتمل: رسائلُ أقاربٍ لم تعد تتلقاها، مكالماتٌ تنقطع على منتصف عبارة، صورٌ تُرسَل وتبقى معلقةً في منتصفها. الإنترنت متقطع، وموجات الأخبار الخارجية تصل متأخرةً، مشوهةً، محمّلةً بتقاريرٍ لا تسعف الجرح.
في الأزقة، ولدت أنماطٌ جديدة من الحياة. رجالٌ لم تعهَدهم الأحياء من قبل يحمون الزوايا، نساءٌ يُنَظِّمْن صفوف الماء والطعام، شبابٌ يحفرون بأيديهم للوصول إلى من قد يكون تحت الركام. بين هذا وذاك، هناك صمتٌ غليظ يسبق كل انفجار؛ الصمتُ كقانونٍ يفرض الاستعداد.
وبين هذا الخراب، كان هناك قلُّمٌ واحدٌ من الجحيم: حشمت مندور. لا مجاز هنا، بل فعلٌ مباشر. كان محبوسًا في مكانٍ أقرب ما يكون إلى خطّ التصادم — مبنى نصفه قائم، والجدران تنوء من الصدمات المتتابعة، والنوافذ محجوبة بأكوام من التراب والزجاج.
الضوء في غرفته محدود، إن وُجد. يسمع كل شيء. يسمع اهتزاز الأرض قبل انفجارها. يسمع رائحة الوقود والمعدن والحطب المحترق تختلط برائحة العرق القديم. يسمع أصوات الأطفال تُغَنّي، ثم تختصر تلك الأغاني في أنينٍ. يسمع أيضًا صمت الجيران المفصولين عنه بجدرانٍ تشقَّت: "هل هو حي؟" تَهمَسُ له امرأةٌ من دورٍ قريب، أو ينبح جروٌ تائهاً، أو قادمٌ يصرخ "احذر!"، ثم يختفي الصوت.
حشمت يستعمل الوقت كما لو كان سلاحًا صغيرًا. في البداية، كان يقيس الزمن بعمر انفجارٍ وبعده. بعدئذٍ بدأ يقيسه بالسقوط: كم مرة يهبط سقف مبنى بجوارك؟ كم مرة ينكسر زجاج؟ كم رجلًا يبكي بلا صوت؟ ومع الوقت صار يقيسه بوجودٍ هشّ: كم مرة يستجيب الصوت لنداء: "هل هناك أحد؟"
في زواياه: كتابٌ مهدودٌ نصفه محروق، علبة سجائرٍ شبه خاوية، بندقية مخبّأة تحت الكرسي، وخريطة مرسومة على ورقةٍ مبتلة. كل الأشياء تلك تتكلم عنه قبل أن يتكلّم هو. يقرأ فيها تاريخَ شخصٍ لم يعد يملك اسمًا واضحًا في ذاكرته، وتروي له أن العالم قد يتلاشى، لكن ذاكرةُ الإنسان تبقى محفورةً على الجدران.
حشمت لا ينام بسهولة. لكن عندما يغفو، تكون أحلامه مكتوبةٌ بصوت صاخب: طائرات تحطّم أيقونات المدينة، ألسنةُ نورٍ تجرح الأقمار الصناعية، أطفالٌ يركضون يحملون كتبهم بدل لعبهم. يصحو وهو يشعر برائحةٍ غريبة تتشبث بالحلق: ذلك مزيج من ترابٍ قديم وزيتٍ محترق.
خارج المبنى، الرصاص لم يخف؛ الاقتحام ينساب من جهة، الانسحابات من جهةٍ أخرى. جنودٌ يمرّون كظلالٍ على أطراف الشوارع، يدورون كمن يبحث عن هدفٍ أخترعته الحرب. أعمدةٌ جديدة من الدخان ترتفع من محطّة وقودٍ، والنار تبتلع واجهة سوبر ماركت؛ كان الناس يعتمدون على ذلك السوبر ماركت لغدهم، والآن صار هو لوحة سوداء لا تُقرأ.
كل شيءٌ خارج وداخل يتآكل: القواعد اليومية. الناس يطرقون أبوابًا بحثًا عن دفء، عن مياه، عن ملعقة طعام لا تكذب على جوع. الأشجار في الشوارع تشبه أشباحًا: قاماتٌ موجوعة، أغصانها تتكسر مع أنين خفيف.
الملاجيء تفيض. المدارس التي كانت تُعلِّم أحرفًا الآن تُعلِّم الصبر. المساجد التي كانت تُنشد تقرأ الفاتحة بصوتٍ متقطعٍ طويل. الناس يتهيأون للصمود أو للمغادرة؛ بعضهم لا يجدون من يرحب بهم خارج المدينة. في زقاقٍ مظلم، امرأةٌ تلصق لاصقًا على بابها: "مأوى للأطفال". كانت عبارةٌ بسيطة، لكنها صارت توقيعًا على نوع من الإنسانية التي ترفض أن تُمحى.
لا توجد إجاباتٌ سهلة. هناك فقط فعل البقاء: أن تدفن قطعة خبز بعناية لتأكلها لاحقًا، أن تجمع مياه الأمطار في برميل لتسقي أطفالاً، أن تنسخ أسماء المحتاجين على ورقةٍ وتتركها على سلم مبنىٍ منكسر ليعرف الآخرون أين يذهبون.
وهكذا يمضي اليوم ويأتي اليوم التالي. الحفر يُكَبر، القوافل تتناقص، والمدينة تنجب أجيالًا جديدةً من الصمت.
— في أقرب نقطةٍ لخطّ الاقتحام، لكنه ليس نسخةً مكررةً من رجلٍ وحيد. هو شاهدٌ على انكسار الأشياء، على صلابة الشعوب، وعلى خيطٍ رفيعٍ بين الخوف والعزم.
وهكذا تبقى غ_زة: مدينةٌ تُعاد كتابتها كل ساعةٍ بحروفٍ من رمادٍ وغبار، ومعها أناسٌ صغيرةٌ وكبار، تُجاهد لتبقى أسماؤهم حيةً على شفاه التاريخ.
بعد غارة قصفت المبنى العسكرى خرج حشمت مندور من محبسه، كانت أول مره يرى فيها النور بعد مده لا يعلمها من الزمن، كان الغبار يغطى جسده كله ويحرق عينيه كان يسمع صراخ لا يعرف له مكان وفى الخارج شعر كأن العالم كله تهدم
جثث مرميه فى الشارع ،بقايا أطراف بشريه دماء تغطى الاسفلت والجدران ،احتاج أكثر من ربع ساعه حتى يستعيد وعيه ،انها حرب ،حرب يا حشمت يا مندور
ركض حشمت مندور نحو الصراخ كان هناك منزل متهدم
وطفله تصرخ امى هنا تحت الانقاض ،تحفر بيديها العاريتين وسط الصخور وهناك فى البعيد القريب اجساد مصابه تصرخ من الألم وتطلب المساعده ،للحظه شعر حشمت مندور ببشاعة العالم وحقارته ،بعد القصف تحركت المسيرات والدبابات خلفها مئات الجند يحملون الاسلحه ويقتلون كل ما تراه أعينهم ،نساء ،رجال، اطفال حتى القطط والكلاب
يسير السرب الضخم فى نظام واضح ولا يترك شيء خلفه حى ،قبض حشمت مندور على الطفله حملها رغمآ عنها وهى تركل وتصرخ ركض فى الشوارع المهدمه ،ركض بكل جهده وسرعته اخيرآ وجد بعض الناس وسياره تحاول الهرب القى بالطفله داخلها قبل أن تتحرك..
كانت هناك امرأه تكافح من أجل الهرب تحمل طفله رضيعه فوق كتفها واخريتين كل وأحده منهم فى ذراع
كانت كمن خرج من قبره للتو والدموع تغرق عينيها تركت زوجها المصاب خلفها وهربت باطفالها قبل أن يلحق بها الجنود ،ركض حشمت مندور نحو المرأه حمل الأطفال وسار معها ولا شيء فى داخله سوى الأنتقام.
يتبع...