رواية أعلنت الحرب على قلبي عبر روايات الخلاصة بقلم إسماعيل موسى
رواية أعلنت الحرب على قلبي الفصل الحادي والعشرون 21
لم يكن الليل ساكنًا بما يكفي لسلوان؛ كان يثقل صدرها كلما أغمضت عينيها، فتجد وجه حشمت مندور يتسلل بين جفونها كطيفٍ عنيدٍ لا يرحل. جلست على طرف الفراش في الغرفة الضيقة، يدها تعبث بجدائل شعرها المتناثرة، فيما تراقب دخان سجائره الذي ما زال يعلق في الجدران، كأنه أثر لوجوده المستمر حتى وهو صامت.
شيء غامض يسكنه. هو ليس مجرد مجرم مطارد، ولا بطلٍ خارجٍ من روايات المقاومة الشعبية، لكنه خليط مربك من الاثنين معًا. سلوان، التي اعتادت أن تقرأ الوجوه سريعًا، وجدت نفسها لأول مرة عاجزة عن فك شفراته. عيناه تحملان قسوة قاتل، لكنها في اللحظة ذاتها تعكسان هشاشةً لا تليق برجل مثله.
سألت نفسها: أهو مجرد تكتيك؟ قناع يضعه ليمرر خططه؟ أم أن في داخله ندبة ما تحاول أن تنزف وحدها؟
حين أخبر ندى أن نوح أراد التخلص منها، شعرت سلوان برجفةٍ خفية، ليست لندى وحدها، بل لها أيضًا. كلمات حشمت لم تكن اعترافًا عابرًا؛ كان يلقي بالحقيقة كمن يرمي حجارة ثقيلة في بئرٍ ساكنة، يترك الموج يتسع وحده.
ازدادت حيرتها: كيف لرجل يحمل بندقيته كأنها امتداد لذراعه، يصنع قنبلة بيدٍ ثابتة، ثم يقول ببرود إن القتل ليس غايته، وإنقاذ الفتاة يكفيه؟ لماذا إذن يزرع في كل خطوة يخطوها أثر الدماء؟
رفعت رأسها نحو السقف، تحاول طرد هذه الأفكار، لكن صوته، طريقته في التحديق، حتى صمته، ظل يطاردها. لم تكن تثق به، ومع ذلك لم تستطع أن تمنع قلبها من أن ينصت إليه. كان في داخله شيء يشبهها؛ هي التي جاءت من أرضٍ مثقلة بالخذلان، وهو الذي يسير في مدينة لا تمنحه سوى المزيد من المطاردة.
بينهما خيط رفيع لم يعترف به أحد، لكن سلوان شعرت به يتوتر ويشدّها نحوه رغمًا عنها.
مدّت يدها تحت الوسادة تتحسس مسدسها الصغير، تتأكد أنه لا يزال هناك. لا لتهدأ فقط، بل لتذكر نفسها بأن هذا الرجل، مهما بدا غامضًا أو هشًا أحيانًا، يظل حشمت مندور: الرجل الذي يطارده الجميع، والذي قد يقلب حياتها في لحظة رأسًا على عقب.
ومع ذلك، حين أغمضت عينيها أخيرًا، لم ترَ سوى ظله يرافقها… وظلت تتساءل في سرها: هل هو خطر يجب أن تفر منه؟ أم قدر كُتب عليها أن تلتحق به؟
___________
خطت ندى إلى جوار حشمت بخطوات مترددة، وجهها ما زال شاحبًا من الصدمة، بينما عيناه تتفحصان الطريق كعادته، كأن كل شجرة وكل ظل يحمل تهديدًا محتملًا. لم ينطق بكلمة طوال الطريق، فقط يداه المتشابكتان خلف ظهره، والسيجارة المطفأة بين أصابعه، كأنه يؤجل لحظة اشتعالها إلى حين.
حين وصل إلى بيت الجد، توقف أمام البوابة الخشبية المتهالكة، نظر إلى ندى هنا حان وقت الرحيل
لكن الجد لم يترك الأمر يمر هكذا. كان واقفًا عند العتبة، عينيه المتقدتين تتفحصان هذا الرجل الغريب الذي أعاد إليه حفيدته. دعاه إلى الدخول، بإشارة يد تجمع بين الامتنان والحذر.
جلس حشمت، يده فوق ركبته، جسده مستقيم، لكن عينيه لا تعرفان الثبات؛ تتنقلان بين الأرض والنافذة والباب، كأن الهروب فكرة تتصارع مع البقاء داخله.
قال بصوت منخفض، حاسم:
ـ أنا مش راجل كويس يا حاج… أنا مجرم، والشرطة بتدور عليا في كل مكان. بس… الأمانة لازم ترجع لأهلها.
الجد شد قبضته، اقترب خطوة، وكاد أن يجيبه بشيء، لكن حشمت سبقه:
ـ ما تجملش ولا تفتح ضيافة… أنا ما باخدش من حد. جيت أسيبها… وأمشي.
نهض واقفًا قبل أن يلتقط أحد أنفاسه، لم يمد يده لمصافحة، فقط انحنى برأسه قليلًا، إيماءة صامتة، ثم دار على عقبيه خارجًا.
على حافة الطريق، وقف يتأمل الحقول الممتدة أمامه. أخضر متشعب يذوب في الأفق، يذكّره أن الدنيا أوسع من كل مطاردة، وأضيق من أن يجد فيها مأمنًا. أخرج سيجارته من جيبه، أشعلها، سحب نفسًا عميقًا كأنما يريد أن يحفظ رائحة الأرض معه، ثم ترك الدخان يتلاشى في الهواء.
سلوان
لم يكن الليل رحيمًا بتلك الرحلة الأخيرة. السماء ملبدة بالغيوم، والنجوم مطموسة كأنها تخشى أن تشهد ما يحدث. سار حشمت مندور بجوار سلوان، خطواته ثابتة رغم وعورة الأرض، بينما هى تلفح وجهها بالكوفية الفلسطينية التى أخفت ملامحها، عينيها تتابع كل حركة فى الظلام.
طريقهما لم يكن مستقيمًا، بل متعرجًا كالمصير نفسه. كانا يمران عبر طرق زراعية ضيقة، يتوقفان فجأة عند صوت كلب ينبح فى البعيد، أو عند مرور شاحنة تحمل عمالًا عائدين من الغيطان. كلما اقترب ضوء سيارة، كان حشمت يجرّ سلوان إلى حفرة أو خلف جدار طينى مهدم، يكمم الهواء بأنفاسه، يده مشدودة على سلاحه، وعينيه تتفحصان الاتجاهات حتى يمر الخطر.
فى بعض اللحظات، كان السكون يسيطر، لكن داخله لم يعرف هدوءًا. كانت سلوان تتحرك بخفة، تعرف متى تصمت ومتى تهمس. همست مرة واحدة فقط، حين توقفا عند مفترق طرق ترابى:
ـ قربنا. بعد الكيلو ده هيكون فى نقطة مراقبة، وراها الشريط… ومن بعده، بلادى.
هز رأسه دون كلمة، تابع السير. العرق يتصبب رغم برودة الليل، كل عصب فى جسده متأهب. حين وصلوا إلى تخوم الصحراء، حيث لا زرع ولا بشر، اتسعت الرؤية، وبدا الشريط الحدودى فى البعيد، ممتدًا كندبة سوداء فى خاصرة الأرض.
اقتربا ببطء، كأن كل خطوة قد تثير طلقة. عند تل رملى صغير، أشار لها بالجلوس، هو ألقى نظرة أخيرة بعينيه المرهقتين، ثم همس:
ـ هنا نهايتى… وهنا بدايتك.
نظرت إليه طويلًا، كأنها تحاول أن تحفظ ملامحه تحت القمر الخافت، ثم شدّت كوفيتها أكثر حول وجهها. قالت بصوت خافت، فيه رجفة مكبوتة شكرا لك.
أدار وجهه عنها، أخرج سيجارة أخرى، أشعلها ببطء، كأنه يهرب من الاعتراف الذى لم يرد أن يقال. تركها تنهض، تتسلق التل، وتواصل طريقها نحو الشريط. ظل يراقب ظلها وهى تتوارى، حتى صارت مجرد نقطة سوداء تتلاشى فى البعيد.
سحب نفسًا عميقًا من سيجارته، ثم بصق على الرمل… كأنه لا ينتمى إلا إلى الظلام.
جلس حشمت مندور على صخرة وحيدة فى البريّة، الصمت يطبق على المكان إلا من صفير الريح وهسهسة الرمال المتناثرة. كانت السيجارة بين أصابعه تحترق ببطء، رمادها يتساقط دون أن يلتفت. عيناه مثبتتان فى العدم، لكن داخله لم يعرف فراغًا، بل ازدحامًا خانقًا من الأفكار.
اسمها يتردد فى رأسه: سلوان.
لم تكن مجرد رفيقة طريق، ولا مجرد شبح عابر عبر أرض مصر، بل صارت ثِقلاً يضغط على صدره. تذكر نظرتها الأخيرة، حين رفعت عينيها نحوه عند التل، كأنها كانت تقول كل ما لم يُقال. شيء ما فى تلك النظرة اخترق حصونه، مزّق الجدار الذى ظل يبنيه حول قلبه لسنوات.
لكنه ليس رجلًا يعرف الارتباط. هو يعرف الخيانة، الدم، البارود، والمطاردة. يعرف أن كل من يقترب منه ينتهى إما قتيلًا أو هاربًا. لذلك جلس طويلًا، يعضّ على شفته السفلى، يتأرجح بين صورتها وبين صور ضحاياه القدامى.
الليل طال، والقمر تسلّق نصف السماء وهو ما يزال ثابتًا فى مكانه. فكر: لماذا تلازمنى صورتها؟ لماذا لا تتركنى كغيرها؟
حاول أن يقنع نفسه بأنها عابرة، بأن كل ما جمعهما محض صدفة ومهمة انتهت، لكنه كان يعلم فى قرارة نفسه أن الصدفة لا تُحفر فى الروح بهذا الشكل.
ألقى بعقب السيجارة بعيدًا، ضرب الرمل بقدمه، ثم مد يده إلى بندقيته. لمس الحديد البارد كأنه يلتمس اليقين الوحيد المتبقى له. رفعها قليلًا، تفحصها بعينيه، ثم نهض واقفًا.
لم يكن له مكان فى البيوت ولا بين الناس. كل ما تبقى له هو الأرض الممتدة تحت قدميه، والممرات المظلمة التى لا يدخلها أحد. تحرك بخطوات بطيئة، يجر ظلّه خلفه، حتى وصل إلى فوهة نفق حدودى قديم، محاط بالصخور ومهمل لا يعرفه كثيرون.
وقف للحظة، استمع إلى صدى الريح وهى تتسرب عبر فتحة النفق، كأنها نداء من عالم سفلى لا يجرؤ أحد على دخوله. ثم شد قبضته على البندقية، أخذ نفسًا عميقًا، واختفى داخل العتمة… تاركًا وراءه السماء، والنجوم، وكل ما يربطه بسلوان
كان حشمت مندور يسير بخطوات متثاقلة، البندقية تتدلى من كتفه، والعرق يلتصق بجبهته رغم برودة الليل. كل خطوة داخل هذه الأرض الغريبة كانت كأنها ضربة مطرقة على صدره. لا يعرفها، لا يعرف شوارعها ولا لهجة أهلها، لكن قلبه الملعون كان يقوده كأنه يعرف الطريق أكثر من عقله.
"ليه أنا هنا؟ ليه ما رجعتش الورى وخلاص؟"
سؤال ظل يضرب رأسه مع كل خطوة، لكن لم يجد له جوابًا. يعرف أنه مطارد، يعرف أن كل لحظة بقاءه خطر، لكن داخله كان يهمس: سلوان….
لم تكن مجرد اسم. كانت بوصلته المربكة، نقطة ضعفه التى لم يعترف بها حتى لنفسه.
النفق خلفه ابتلع ماضيه، والبلد الجديدة أمامه تمد لسانها كأنها تتحداه: "
حين وصل إلى ما يسميه أهل التهريب "النقطة العمياء" — مساحة خالية بلا حراسة، بلا علامات، فراغ ممتد بين أطراف الجبال — وقف حشمت ساكنًا. نظر حوله، لا شىء سوى الريح والغبار. كان الفراغ واسعًا حتى شعر أن خطواته السابقة لم تعنِ شيئًا، وأنه وحيد كذرة رمل وسط بحر لا ينتهى.
أشعل سيجارة، سحب نفسًا عميقًا، ترك الدخان يتسرب من فمه وهو يحدّق فى المدى. داخله كان يعصف كبركان مكتوم:
"أنا رايح فين؟ وإيه اللى هستناه هناك؟"
وفجأة… اهتزت الأرض تحته.
دوّى انفجار ضخم من ناحية اليسار، ارتجّت الصخور، تطاير الغبار كسحابة كثيفة حجبت القمر. صوته اخترق صدره مثل صاعقة، فألقى عقب السيجارة وحدّق فى مصدر الصوت.
ومن قلب الدخان، رأى ظلالًا تتحرك بسرعة. عشرات الرجال، ملثمون، يتدافعون حاملين أسلحة طويلة، أصوات رصاص متقطع تتداخل مع صرخات مبهمة. بدا المشهد كأنه خرج من كابوس لم ينته بعد.
ركض بعضهم نحوه، وجوههم مختفية تحت الأقنعة السوداء. أحدهم صرخ بصوت حاد وهو يشير بيده:
ــ إجرى يا زلمه! المكان هيتقلب نار… امشي دلوقتي!
تجمّد حشمت لثوانٍ، البندقية ما زالت على كتفه، والصدمة تعصف به. لم يفهم من هؤلاء ولا ما الذى يحدث، لكنه أدرك شيئًا واحدًا: أن ما رآه ليس انفجارًا عابرًا… بل حربًا صغيرة انفجرت أمامه، وحياته على المحك لو بقي واقفًا.
ظلّ حشمت مندور واقفًا وسط الغبار، عيناه تراقبان الفوضى التى انفجرت فجأة أمامه. الرجال الملثمون يركضون، الانفجار ما زال صداه يدوى، والدخان يتصاعد كثيفًا كستار يحجب الحقيقة. قبضته اشتدت على البندقية، لكن قلبه كان يقول: اهرب… اختفى… دى مش حربك.
شدّ نفسًا طويلًا من سيجارته، أحس بدخانها يخنق صدره أكثر مما يحرره. قال لنفسه:
ــ "مش وقت بطولات يا حشمت… النجاة دلوقتي هى الشطارة."
أدار جسده نصف دورة، مستعدًا للانسحاب نحو الصخور والاختفاء فى دهاليز الأرض كما اعتاد. لكن عينه، تلك العين التى لا تخطئ، التقطت مشهدًا جعل دمه يغلى.
بين الظلال والدخان… ظهر ذى مموّه يتحرك بخطوات عسكرية، مدجج بالسلاح، وعلى كتفه يلمع شارة واضحة: نجمة سداسية.
توقف الزمن فى تلك اللحظة. السيجارة بين أصابعه ارتجفت، تفتت طرفها المحترق وسقط رمادها على التراب. لم يعد يسمع الصرخات ولا وقع الأقدام، كل ما رآه كان تلك العلامة، كأنها خُطّت على قلبه مباشرة.
اشتعل الغضب داخله، لم يكن غضبًا عاديًا، بل بركانًا انفجر بعد صمت طويل. ضغط بأسنانه، همس كمن يحلف قسمًا:
ــ "على جثتي…"
أسقط السيجارة على الأرض وسحقها بحذائه، ثم رفع البندقية بثبات قاتل. لم يعد هناك مجال للتراجع، لم يعد هناك هرب.
الريح حملت أولى رصاصاته، دوّت الطلقات كأنها تعلن ولادة معركة جديدة. العسكر المموّهون ارتبكوا للحظة، قبل أن يلتفتوا جميعًا إلى ذلك الرجل الوحيد الذى أطلق النار دون خوف، كذئب قرر أن ينقضّ على قطيع كامل.
رصاصة أولى أصابت صدر جندى فوقع متدحرجًا، الثانية شقت خوذة آخر وأسقطته صامتًا. صرخات ارتفعت، السلاح الآلي ردّ بوابل كثيف، الشرر يطير من الصخور، لكن حشمت مندور كان قد بدأ حربه الخاصة، حربًا لم يختر زمانها ولا مكانها… لكنه اختار ألّا يهرب
وش بتسوى يا زلمة ؟ جأه صوت رفيع من بين الصخور لوجه ملثم يحمل اربجية انت بتبوظ كل حاجه
رمقة حشمت مندور بغضب والشرر يتطاير من عينه انت معايا ولا معاهم
تردد الصوت لحظه فى صمت، انت مصرى ؟
مصرى ولا اجنبى هتفرق ايه ؟ همس حشمت مندور وهو يطلق دفعه من الرصاص تعوق تقدم القوات
احنا ناصبين كمين تعالى معايا خلى القوات تتقدم
صرخ حشمت مندور ،اسمع يا جدع انت مش عجبنى، انا كده كده ميت ادينى الاربجيه إلى معاك ده، ومع اخر كلماته انطلقت دانة دبابة إلى موقعهم ،قفز حشمت مندور فى اخر لحظه وتدحرج على الأرض والصوت صم اذنية
يتبع...