📁 أحدث الفصول

رواية جمعية حب الفصل الثاني 2 بقلم شمس محمد بكري

رواية جمعية حب عبر روايات الخلاصة بقلم شمس محمد بكري

رواية جمعية حب الفصل الثاني 2 بقلم شمس محمد بكري

رواية جمعية حب الفصل الثاني 2

|| فراشة أمام غابة وحوشٍ ||

بسم الله الرحمن الرحيم، 

والصلاة والسلام على الرسول الكريم..

سبحان الله وبحمدهِ، سبحان الله العظيم..

|| صلوا على الرسول الحبيبﷺ ||

_الرجاء الدعاء لعمتي بالشفاء العاجل لعل أحدكم أقرب مني إلى الله، ولعل بدعائكم يزول عنها البلاء ويرحل عنها الضُر.

____________________________________

حين كنتُ أنا صغيرًا في زمانٍ ما؛

كان العالم في عيني رحيمًا ولم أظنه بهذا الفرطِ من القسوةِ، فكنت أحسب كل القلوب رحيمة، 

وكل الناس ذات خصالٍ كريمة، كنت أحسب ضحكات الأطفال ستدوم معهم طويلًا، لم أظن يومًا أن أرى أقرب الأقربين مني بهم المساويء تسكن القلوب اللئيمة، فَحين كنت أنا

 _قبل أن أفقدني_

بغير رجعةٍ حسبت العالم بي يهتم، لكن العالم ساقني في دربٍ وجدت نهايته في عيني جحيمًا، أنا في قطار العمر قبل أن ينطلق بي بين محطات الأيام كنت أحسب نفسي ستبقىٰ معي للأبدِ بغير فراقٍ، لكني مع كل محطةٍ ولجت فيها بقطارِ أيامي فقدتني أنا بالتدريج، حتى في لحظتي هذه أراني عن نفسي غريبًا وكأني فقدتني بالكُليةِ وضاع بي القطار في محطاتٍ لم تُشبهني..


       <"الورد يحتاج للسُقيا، والمُحب لا يقطفه">


قالوا في زمنٍ قديمٍ أن المُحب للوردِ يحب نضوجه، يُحب أن يرعاه، يُسقيه بحبٍ من قلبهِ، أما الطامع فهذا يقطفه لنفسه، رغم أنه يعلم أن الموت أكيدًا لها، لذا شتان ما بين مُحب الورود وقاطفها، فهذا يُعطيها الحُب من كل قلبه، والآخر يسرق منها الرحيق فقط ليُحيي به لحظةٍ في قلبه..


صرخت "ورد" بمجرد أن شعرت بجسده يلتف حول جسدها وقد حاولت أن تدفعه بقدر ما سمحت لها حالة الإعياء التي تملكت من جسدها، بينما هو فمال بجوار أذنها يُهسهس بصوتٍ كريهٍ لسمعها:


_مش أنتِ برضه تعبانة؟ هتقعي من طولك.


في هذه اللحظة ابتعدت بالفعل حين بكت ونزل دمعها وقد ولجت أمه تركض بخطواتٍ واسعة وخلفها زوجها يدفع مقعده المتحرك وسأل بلهفةٍ قلقة على الفتاة:


_مالك يا بنتي في إيه؟ حصلك حاجة؟.


وزعت نظراتها المذعورة بينهم بحدقتين مهتزتين ثم قالت بصوتٍ مرتجفٍ بالكاد سُمِع من الواقفين:


_مـ مفيش يا بابا، جسمي بس سخن وحاسة إني هقع من طولي.


لاحظت حماتها رجفة جسدها فاقتربت منها تتحسس جبينها فاستشعرت حرارة جسدها المرتفعة وتورد وجنتيها بسبب سخونة الدماء في جسدها ووقتها زفرت بثقلٍ ثم قالت بصوتٍ جامدٍ:


_طب يلا تعالي ريحي شوية جوة، تعالي.


أخذتها من يدها ودخلت بها غرفة جانبية تضعها فوق الفراش؛ فيما وقف "خـلف" يُطالع أثرها بإحباطٍ وجبينه قد تندى عرقًا، وقد لاحظه والده فرمقه بنظراتٍ ساخطة ثم قال بذات الجمود الخالي من ذرة تعاطف أو شفقةٍ حتى:


_أنزل هات "مـروة" بنت عمك من الصيدلية خليها تيجي تكشف عليها وتجيب حقنة معاها، وأصلب طولك شوية وتاني مرة إيدك ماتتمدش على مرات أخوك، إيدك لنفسك يا "خـلف" مش هقول تاني.


رفع حاجبه وقال بسخريةٍ أقرب للتهكمِ وعدم الإكتراث بما يُقال:


_يعني أسيبها تقع من طولها ولا تميل على البوتجاز تتحرق؟ مش عاجبك طبعًا إني بلحقها، بس على العموم يعني هنزل أجيب "مـروة" حاضر، ياكش نعجب بس.


لاحظ والده تهكمه وسُخريته فضرب كفيه ببعضهما وظل يبتهل لربه بهداية ابنه الضال في طريقٍ مُظلمٍ لم يعد منه حتى الآن، أما في الغرفةِ فكانت "ورد" ترتعد وهي تتذكر اقتراب هذا المُتبجح منها، تذكرت كيف كانت أنفاسه قريبة منها لحدٍ كريه، لذا حين اقتربت منها "خيرية" أجفل جسدها وهي تشهق بخوفٍ فيما قالت الأخرى بتهكمٍ:


_هعملك كمادات يمكن الحرارة تنزل شوية، عارفة السخونة بتعمل هلوسة وبتخلي الواحد يتهيأله حاجات محصلتش.


فهمت "ورد" ما ترمي إليه بحديثها فاندفعت بوهنٍ تدافع عن نفسها بقولها الأقرب للبكاءِ:


_دي مكانتش هلوسة، "خلف" فعلًا قرب مني ودي مش أول مرة تحصل، وأنا ساكتة علشان احترامي لجوزي بس في غيابه وغربته وعلشان بابا مالهوش ذنب يتعب ولا حتى أتحرم من نزولي هنا بسبب ابنه، لو كدا أروح بيت أهلي أحسن.


رفعت "خيرية" حاجبيها باستنكارٍ ساخرٍ وقد اِفتر ثغره ببسمةٍ لم تنذر بخيرٍ وقالت ردًا عليها بلامبالاةٍ ألبستها وشاح التجبر والقسوةِ:


_أعملي اللي تعمليه، بس ماتنسيش يا حبيبتي إنك قاعدة هنا علشان خاطر جوزك اللي هو ابني، واللي بتجيبي في سيرته دا وبتتهميه يبقى أخوه، واللي قاعد على الكرسي برة دا يبقى جوزي، يعني مالكيش فيهم قد اللي ليا، ساعتها بقى الكل هيعرف إنك مش عاوزة تنزلي هنا علشان ماتشيليش أهل جوزك، وهتبقي فرقتي بين الأخوات، لو ترضيها يا حبيبتي براحتك.


ازدردت لُعابها بخوفٍ فمالت الأخرى عليها تهمس بشرٍ:


_لو حصل وفتحتي بوقك بحرف ولا نطقتي بكلمة على ابني الله في سماه لأخلي سيرتك على كل لسان، وكلمتك قصاد كلمتي.


ظهر القهر مرسومًا في عيني "ورد" حين أعلنت الأهداب حربًا بين المُقلِ، حيث كانت نظرتها مرتعدة، خائفة، مقهورة على حقيقةٍ تُخفى وفضائح سوف تطولها، بينما "خيرية" فهي كانت كما القطة التي أكلت صغارها، من فرط خوفها على ابنها وفلذة كبدها المُدلل كانت تحميه ولو بذلك ترميه في جُب النيران..


في الأسفل بقرب البنايةِ نزل "خـلف" مقر عمل ابنه عمه وولج لها ينتظر انتباهها له، وما إن اقتربت له تستند على الطاولة الزجاجية بكفيها ولاحظت وقوفه سألته بسخريةٍ:


_خير يا "خـلف" عاوز إيه؟ مفيش برشام هنا.


تحولت ملامحه لضحكةٍ أقرب لسبيل السُخريةِ ثم رد بخبثٍ كأنه يدعي ما لم يملك من صفاتٍ:


_أنا !! أنا بتاع برشام؟ حرام عليكِ دي كلها مُسكنات.


استنكرت الرد بملامحها بينما هو قال مُدعيًا أسفًا ورقة قلبٍ:


_الست "ورد" وقعت من طولها فوق وعمك عاوزك تتطمني عليها وتشوفيها، وهاتي معاكِ حقنة علشان سخنة مولعة، يا عيني بتترعش.


توسعت عيناها وكادت أن ترفض منذ وهلتها الأولى، وهذا بالفعل ما استقرت عليه في النهايةِ بعد أن قالت بتبريرٍ كاذبٍ لكنه كان مُقنعًا لحدٍ كبيرٍ:


_للأسف مش هينفع أسيب الصيدلية لوحدها، ممكن أكتبلك علاج وحد يديهولها وخلاص، بعدين ما تمسك نفسها شوية، مش قادرة تصلب طولها يعني؟ والله أنتوا مدلعينها.


اِفتر ثغره ببسمةٍ ازدادت خُبثًا وقال يرمي إلى ماضٍ فات:


_الله !! دا أنتِ قلبك أسود أوي بقى، مش قادرة تنسي إنه كرفلك علشانها واتجوزها هي وسابك أنتِ؟ صحيح هو قالك خلينا أخوات؟ ولا قالك أنا مش قادر أشوفك مراتي؟.


امتدت أيادي النيران لقلبها تحرقه، تحولت ملامحها للبغضِ والكُره فيما كان يعلم هو كيف يستغل الأمور كافة لصالحه، لذا قبل أن ينسحب وجدها توقفه وهي تقول بصوتٍ تلجلج عن سالفه:


_استنى.


التفت بنصف جسده وقد كان قرر الرحيل فإذ به توقفه وهي تقول بثباتٍ كاذبٍ وكأنها لمحت الجانب المُضيء في نفقٍ معتمٍ:


_في النهاية علشان خاطر "منتصر" بس ميزعلش.


من جديد يبتسم هو وقد انتظرها حتى أغلقت المكان وتبعته بعد أن أخذت ما تُريد، وبعد مرور دقائق كانت تقف بالغرفةِ والأخرى سطحت جسدها فوق الفراش وقد ولجت "مـروة" بملامح مقتضبة متجاهلة حديث زوجة عمها وترحيبها إلى أن قال عمها بطيبته المعتادة:


_الله يسعدك يا بنتي شوفيها كدا دي مولعة والكمادات مش عاملة حاجة خالص معاها، الله يستر عرضك ويطمن قلبك.


ابتسمت له بسمة غير مكتملة واقتربت من "ورد" التي كانت في عالمٍ آخرٍ غير واقعها وقد قامت بقياس حرارتها وقامت بفحص ضغط الدم في جسدها، وتنهدت وهي تقول بنفس الجمود:


_درجة حرارتها عالية أوي هديها حقنة لخفض الحرارة، وضغطها عالي برضه ودا اللي مخليها عندها صداع ومش قادرة تفتح عينيها، متقلقيش مجرد بس ما تنام وتتدفا شوية هتكون زي الفل؛ على بكرة الصبح بإذن الله.


تنهد عمها بارتياحٍ وظل يدعو لزوجة ابنه وقد رمقته ابنة شقيقه بحزنٍ منه وحقدٍ على الأخرى، نظراتها تسرد حكاية قلبها وإن لم تنطق هي بذلك، في هذه اللحظة صدح صوت هاتف "ورد" من حساب زوجها عبر أحد مواقع التواصل الاجتماعي بتقنية الرؤية، وحينها جاوبته أمه وهي تقول ببسمةٍ بشوشة:


_حبيب قلبي أخبارك إيه يا "منتصر".


ابتسم بمجرد أن لمح أمه في شاشة الهاتف وقال بلهفةٍ:


_حبيبة قلبي فرحان علشان شوفتك بخير، طمنيني عليكم أنتوا كويسين؟ بابا راح للدكتور ولا لسه؟ و "ورد" أخبارها إيه؟ هي مش هنا ولا إيه؟.


ابتسمت له أمه وقالت بضحكةٍ تجعل بها الأمور في وضعها الطبيعي كأنها تمازحه:


_شوف الواد اللي ملهوف عليها !! متقلقش يا أخويا الوردة بخير وزي الفل يا حبيبي، هي بس نايمة شوية علشان واخدة دور برد شوية، أنتَ عارف الجو هنا صعب إزاي.


هوى فؤاده أرضًا لأنه يعلم كيف تصبح حالتها في غاية الصعوبة حين يداهمها هذا المرض، لذا قال مندفعًا بلهفةٍ أوضحت جمَّ اضطرابه وذُعره عليها:


_ماما علشان خاطري خلي بالك منها، وحاولي ماتخليش حرارتها تزيد علشان بتقلب معاها بِـ حمى، وأنا هبعتلكم صورة الدوا اللي هي بترتاح عليه، معلش يومين كدا وتفوق، بس دي أمانة خلوا بالكم منها.


ابتسم والده بحنوٍ وتدخل يقول بفخرٍ معبرًا عن سعادته بابنه البكري:


_ربنا يباركلك يا "منتصر" ويراضيك يا حبيبي، متقلقش عليها في عينينا يا حبيبي و "مـروة" بنت عمك جت وكشفت عليها وطمنتنا، وبكرة لما تصحى هتكلمك، ولو هي صحيت بليل هخليها تطمنك، شوف بس شغلك، ربنا يردك لينا من تاني.


تنهد "منتصر" بثقلٍ ثم رد على والده واستأذن منهم وأغلق الهاتف، لكن هناك غصة ألمته حين أدرك المسافة بينه وبينها، حبيبته وشريكة عمره وزهرة أيامه والفاصل بينهما حدود دولية، ساعات وأيام تبعدها عن مرمى عينيه، هي المكسب الوحيد في حقل أيامٍ خاربة، لذا تحرك يقف في شرفة الشقة التي يسكن بها ثم رفع رأسه للسماء كأنه يناجي ربه بصمتٍ لأجلها..


هو "منتصر مرسي العباسي"..

الابن الكبير لـ "مرسي" وهو البكري الحكيم، الابن البار بأهله، الأخ الحنون العطوف على شقيقه الأصغر، الزوج المُحب لزوجته، العاشق الولهان لزهرةٍ أتته من حقل الزهور، المحب لـ "ورد" والسابح في بحور عينيها، غارقًا في عشقها _وإن كانت الحياة تعترض سبيله لها_ وقد هاجر منذ عامٍ ونصفٍ لدولةٍ خليجية حتى يجد فرصة عمل تناسبه بعدما ضاق الحال عليه في موطنه..


كان متواضع الوسامة، حيث لم يكن طويلًا بقدر المبالغةِ، متوسط البنية فكان جسده أقرب للجسد الرياضي، بشرته حنطية أقرب للبشرة القمحية، عيناه باللون العسلي الفاتح، وخصلاته قصيرة بلونٍ أسود داكنٍ، وقصته بأكمله تتلخص كونه مُحب الورد وعاشقه.

____________________________________


<"لأن الشطرنج لُعبة كل ذكي؛ رُقعتها لم تتحمل وقوف الغبي">


في لُعبة الشطرنج ستجد بها بعض الاستثناءات الغريبة، يكاد يكون بعضها وصل حدَّ الجنونِ، كما أنك سوف تجد فيها أن كل قطعةٍ تعرف حدودها عدا الحصان، وُلِد فيها كي يكسر الخطوط، يرى في كل عائقٍ فرصة، ويرى في كل زاويةٍ مخرجًا، هو المجنون هُنا فوق الرُقعةِ الذي يفهم النظام ويُقرر الرقص خارجها..


قضى نصف يومه بالعملِ، والنصف الثاني كان ينتظر تحرك البيدق من فوق الرُقعة، يجلس بهيئةٍ جامدة وثابتة وفي الداخل كان دمه يغلي بسبب كثرة الإنتظار، ظل يتجول في معرضه الخاص بتجارة السراميك والأدوات الصحية، تجول بين الأعمدةِ حتى وصل عند عروسين يقفا مع بعضهما يقوما باختيار الأرضية المناسبة لشقة زواجهما..


وقف يراقبهما بعينين مُبتسمتين وهو يرى اللحظة الأسعد في حياة أي شابين في عُمرهما، يلاحظ اقتراحات كلًا منهما، ويشاهد بأم عينيه اختيار من سيسود على البقية، إلى أن تحضر اللحظة التي يكرهها وهي لحظة تدخل الأهل_ أيًا كان من الطرفين_ فتمتعض ملامحه ويبدأ ضجره.


تدخلت والدة الشاب تقترح بفضولٍ قرأ هو أصله في عينيها:


_أنا بقول يا حبيبتي هاتي لون فاتح أحسن علشان التراب ميبانش فيه، الغامق دا بيلم عفرة قد كدا، عارفة يا أم "ولاء" والله عندي بلاط بني مطلع عيني، كل يوم مسح وكنس وياريته بينضف، مفيش يادوب ساعة وتلاقي التراب بيلمع كدا.


كانت توجه الحديث لوالدة العروس التي ابتسم لها بقلة حيلة، بينما العروس قالت ببسمةٍ هادئة:


_الشقة واسعة يا طنط والعفش فيها مش كتير، اللون الغامق في الأرضية هيكون حلو ويلم الدنيا شوية، غير كدا هيليق مع الدهان اللي مختارينه وجايبين حاجته، بعدين أنا هروح فين؟ هروق الشقة أكيد علطول مش هسيبها تترب.


_براحتك يا حبيبتي، براحتك أنا مش بجبرك أنا بديكِ رأيي بس، عمومًا لو عاوزة تسمعي كلامي براحتك، مع إن الفاتح دا بينطق الشقة وبيخلي المكان مريح نفسيًا، بعدين دا شكل المتر منه غالي أوي، مش هيكفي باقي الشقة.


هكذا كان جواب السيدة التي تدخلت كيفما تريد دون أن توضح ذلك، في الحقيقة هي تخشى على المال، تخشى من تبذير ابنها للمال كله في أشياءٍ تسحب كل المال الذي دخره لأجل تلك الزيجة، لذا تدخل هو يقول بثباتٍ بصفته مالك المعرض:


_السلام عليكم، إزيك يا عريس عامل إيه؟.


التفت الشاب له يرحب به وصافحه واستفسر منه عن الأسعار الخاصة بكل مترٍ من نوعٍ مختلف، والأفضل من بينهم الذي اختارته العروس، وما إن لمح الحزن وخيبة الأمل فوق وجهيهما قال بهدوءٍ:


_هو دا يعتبر بورسلين مش سيراميك، دا ميكس أرت عالي شويتين المتر منه بـ٣٥٠ جنيه، بس هو أشيك وأحسن مليون مرة من السيراميك العادي، بيعيش وبيبان كأنه رخام في الأرضية، ودا أحسن بكتير.


قام الشاب بحسبة بسيطة للمال الذي أتى به وقد وجد عجزًا به فنظر للفتاة التي قالت بهدوءٍ كأنها تهرب من قسوة مشاعر خيبة الأمل عليها:


_خلاص نشوف حاجة تانية، ممكن نجيب سيراميك أسود عادي؟.


كان "أدهم" يقف بينهما يراقب ردود الأفعال، وقد وجد الملامح التي تبدلت كُليًا بعدما صدمتهم الأسعار هنا، ولأنه يرى نفسه في كل شابٍ يحتاج لفرحةٍ من هذا النوع، قال ببسمةٍ هادئة:


_طب بص، هاجيبلك حاجة تانية شبهه بالظبط مش نفس الخامة أكيد يعني، هوريهالك وهتشوف بنفسك إن الفرق بينهم صعب تلمحه، تشوفه الأول وأقولك على تفاصيله ولا ناويين على حاجة تانية؟.


رد عليه الشاب بأملٍ عاد يسكن ملامحه وعينيه:


_ياريت، أنا بس مش عاوز العروسة تزعل، أي حاجة هي عاوزاها عيني ليها، بس تبقى حنينة شوية لأن لسه فيه حاجات كتيرة أوي عاوزين نجيبها ونعملها.


أشار له "أدهم" كي ينتظره ثم ذهب من أمامه وغاب لدقائق وعاد من جديد له يحمل قطعة صغيرة مُربعة الشكل في يده ثم باشر فعله كما التاجر الماهر وهو يعرض مزايا المنتج المعروض منه، وللحق هو كان متشابهًا مع الآخر بدرجةٍ كُبرى، يكاد يكون الاختلاف بين الملمس وبين درجة اللون، لكنه سيظل الأقرب لمرادهما..


في النهاية لاحظ اعجابهم بما يقدمه لهم ولاحظ أن الفتاة حقًا أعجبها هذا ورضيت به فقدم لهم السعر قائلًا بلينٍ يتصف هو به:


_دا المتر منه بـ ١٦٠ جنيه، بس علشان أنتَ حبيبي وجاي تبع حبيبي هنزله لـ ١٣٠ جنيه المتر، وكدا أنا موجب معاك بزيادة.


كأنه يعلم كيف يُراضي جميع الأطراف بسهولةٍ، وجد الفرحة ملأت المكان بأكمله وصوت زغاريد والدة العروس علا بالمكانِ وارتفع تعبيرًا عن فرحتها، وأهم شيءٍ أنه ضمن موقف والدة الشاب قبل أن تُخرب فرحتهما، وقف هكذا مبتسمًا حتى تمم عملية الشراء وقام الشاب بشراء السيراميك لشقته بأكمله وانتهى اليوم بمسك الخِتام..


بعد مرور بعض الوقت صدح صوت هاتفه برقمٍ جعله ينتفض من محله، ترك المكان ومشىٰ للخارج حتى ولج مكانًا بقرب موضع عمله، ولج بثباتٍ لرجلٍ يجلس في انتظاره بعمر والده تقريبًا؛ وبمجرد أن لمحه الآخر قال ببسمةٍ هادئة:


_تعالى يا "أدهـم" نورت يا حبيبي اتفضل.


ولج يجلس بقربه والرجل يقرأ ملامحه ويستنبطها بقدر ما استطاع أن يفعل هذا، وكأن الآخر يحافظ على تحفظ ملامحه، لكنه قال بهدوءٍ وثباتٍ:


_شكلي عارف أنتَ جاي ليه، بس عاوز أسمع منك.


زفر "أدهـم" براحةٍ يخرج بها ضيق صدره ثم باشره في الحديث بقولهِ الذي خرج بعقلانية أكثر من كونه يندفع في الحديث:


_بص يا حج "عبدالحق" أنا راجل دغري وابن سوق وإن كانت المقامات محفوظة ومقامك في السوق كبير، بس من الأول المحلات دي كانت ملك أبويا بالمخزن، ولما قرر إنه يبيعهم طلب منك ووصاك إنك لو هتسيبهم محدش غيري ياخدهم ويرجعهم لاسمه تاني، وأنا عرفت إن "حلمي" جاي وعاوزهم ورافع السعر، أنا هسيبك لحق ربنا وتقولي.


زادت بسمة الرجل اتساعًا ثم تنهد بقوةٍ ومرر حبات المسبحة بين أنامله وهو يقول بصوتٍ هاديء رزينٍ:


_حق ربنا اللي ليك عندي إن المحلات ترجع وتشتريها بما يرضي ربنا لا خسارة ليا ولا خسارة ليك، بس أنا علشان هروح عند ابني وأعيش هناك وأقضي اللي فاضل ليا معاهم قولت خلاص أسيب السوق بقى، و "حلمي" لما عرف جالي وقالي إنه عارض يشتريهم، بس أنا ماديتش كلمة لحد، مستني صاحب النصيب ولو هما نصيبك ورزقك هتاخدهم يا "أدهـم" وأنا مش ماليش مصلحة مع حد فيكم، بس علشان كلمتي ليك اللي من كام سنة إني يوم ما هسيب هتكون ليك، أنا عند وعدي.


شعر "أدهـم" بالراحةِ أخيرًا، كأن الحياة تراضيه بشيءٍ كان يرغبه ويسعى لأجله، لذا لم يتردد ولو لثوانٍ قبل أن يُخرج العقود يمد يده بها، فضحك الأخر وهو يرتكن على مقعده وقال بسخريةٍ يمازحه:


_دا أنتَ محضر لكل حاجة بقى.


_ما أنتَ عارف السوق كل فرصة فيه مالهاش وقت ولا معاد.


قال جملته وترك الورق في يدي الآخر، بينما هو فكان يرى بعينيه نصرًا يلوح له فوق قمة الهرم، كأنه ولج عِدوًا وانتصر فيه على نفسه قبل الطريق، كأن الشمس تُشرق في صقيع أيامه وتتوج مسعاه الموسوم بالخيبات المتتالية، وهو على كلٍ يستحق النصر لطالما كان صاحب الحق فيه.

____________________________________


<"كنت الطرف الأكثر تمسكًا طوال العمرِ، اليوم أنا المُتخلي">


يحدث أن نفقد طاقتنا في الحياة، 

فتنفلت يدانا مِن أيادٍ كانت تتمسك بها بقدر استطاعتها، نحاول على قدر جُهدنا أن نبقى مُتشبثين لكن في النهاية تنتهي طاقة التحمل، نُصبح فاقدين الشغف والطاقة في الحياةِ، وكأننا نُساير الأيام فقط كي ترسو بنا عند أقرب ميناء ترتكن به السُفن، وفي لحظةٍ ما حين نرفض تقديم المزيد، سوف نكسب أنفسنا أولًا ونخسر الكُلِ…


الحياة التي تسير وفق نمطٍ واحدٍ مُحددٍ حين تتغير يصعب على المرء تقبل هذا التغير، يكون من المستحيل أن يُجاري الأيام بها، يحتاج وقتها لفترةٍ انتقالية كي يألف التغيير الطاريء على حياته، لكن حين يضيق به الحال قد لا يألف ولا يقبل التكيف..


وقف أمام المرآةِ يراقب ملامحه التي ظهر عليها الإجهاد بشكلٍ واضحٍ، فترة طويلة وثقيلة مرت عليه دمرت في طريقها كل ثابتٍ، لم يعد يعلم أي الطُرق تُوصله بصوابٍ وأيهما يوصله بخطأٍ، لذا فرك وجهه ثم ولج المرحاض يتحمم وهو يواجه صراع أفكاره وتخبط أيامه وحرب الذات التي لم يقدر عليها..


أنهى حمامه وارتدى ثيابه ونمق هيئته ثم نزل فوق درج بيته الذي يتسم بالفخامة، كان يضبط ساعة معصمه وهو ينزل من فوق الدرج ثم دار بعينيه في المكان فوجد زوجته تجلس تتصفح هاتفها بغير اكتراثٍ، اقترب يقف خلفها وقال بهدوء:


_"مـها" أنا رايح علشان أجيب "سليم" و "سدرة" يقعدوا معاكِ هنا لحد ما أخلص مشواري مع ماما وهرجع تاني بس احتمال يباتوا هنا النهاردة.


انتفضت كأن هناك حية لدغتها في مرفقها والتفتت تواجهه بقولها الذي خرج باندفاعٍ منفعلٍ وكأنه لم يمر على طريق العقل:


_هو إيه أصله دا يا "سليمان" وآخرته إيه؟ أنا هفضل في الهم دا كتير؟ دا بيتي ومن حقي أقعد فيه زي ما أنا عاوزة، من حقي أقعد براحتي زي ما أحب، مش كل يوم والتاني تبليني بيهم، وديهم في أي حتة ولا أرميهم لأمهم هي حُرة.


توسعت عيناه بشكلٍ جعل الخوف يدب في أوصالها لكنها لم تتراجع، بل أكملت سير حديثها بذات الطريقة وهي تقول:


_أنا زهقت ومش هفضل في القرف دا كتير، مفيش واحدة هتقبل إنها تشيل عيال أمهم مش معاهم ولا حتى تقبل الوضع دا اللي أنا فيه، دا بيت مش فندق ولا كيدزإيريا هفتحها للعيال.


وهُنا انفجر، الأيام السيئة التي كان يبتلعها ظهرت في غضبه حين انفجر في وجهها بقوله الذي لازال تحت طور صدمته:


_وضع إيه. !! هو أنا بقولك خدمي عليهم؟ العيال مكسورة مالهمش حد ولا بيطلبوا حاجة حتى، بييجوا من سكات ويقعدوا من سكات ويمشوا بنفس الطريقة، عندك واحدة بتساعد في البيت كله مش مخلياكِ تشيلي كوباية مياه من مكانها وهي اللي بتخلي بالها منهم وسيادتك عمرك ما بصيتي لواحد فيهم حتى، وضع إيه اللي مستحملاه؟ دول عيال أخويا، يعني لحمي ودمي.


رفعت حاجبها بملامح مشدودة لم تُشيء بخيرٍ ثم قالت بصوتٍ عالٍ جعل مدبرة البيت تركض لهما بخوفٍ:


_خلاص وديهم في أي حتة، وديهم لأمهم هي أولى بيهم معاها على الأقل تراعيهم وتهتم بيهم بدل الصداع دا، لكن أنا لأ يا "سليمان" وبيتي محدش هيدخله طول ما أنا مش راضية، ويا أنا يا ولاد أخوك، هو أنا ناقصة قرف أهلك كمان.


رمت الحديث دفعة واحدة عليه وهو لم يعد مالكًا لأي طاقةٍ قط، لذا اقترب منها يسحب مرفقها حتى التصقت به ثم هدر في وجهها بغضبٍ أعمى أنذرت به عيناه:


_لو أنتِ جدعة وفيكِ حيل كرري كلامك تاني.


تسلحت بشجاعةٍ كاذبة وقالت بصوتٍ مرتجفٍ تجابه قوته بها:


_قولت اللي عندي، يا أنا يا هما يا "سليمان".


_يبقى هما أكيد، أنتِ طالق.


أنهى جملته ثم دفعها من طريقه فمالت على الأريكة بغير تصديقٍ وكأنها طُعِنت بسكينٍ في قلبها، أما هو فالتفت كأنه سكب كأس عصيرٍ ونادىٰ مدبرة بيته بملء صوته الذي اهتز ووصل صداه لكل شبرٍ حيث قال بصوتٍ عالٍ:


_"تـغريد" جهزي البيت وحضري أوضة "سليم" و "سدرة" علشان هيباتوا هنا النهاردة، وأي حاجة هنا مالهاش لازمة تترمي برة البيت، وأرجع ألاقي البيت فاضي بدل ما قسمًا بربي أفضيه دلوقتي بقلة أدب.


ارتسم الأسف فوق ملامح مدبرة البيت بينما زوجته، أو عفوًا طليقته وقفت تطالعه بدهشةٍ، لم تتخيل أنه تخلى بتلك السهولة، ظنته سوف يحارب، ربما يتحدث، ربما يحايلها، ربما يتودد لها هي تقتنع، لكنه ضرب بكل ما تخيلت عرض الحائط وهدم الجدار الذي كانت تتسلقه لتسقط أرضًا فوق رأسها، وفي النهاية قصته معها ستبقى صفحة في كتابٍ لم يستطع تخطيها مهما فعل..

____________________________________


<"كنت معي في أول لحظات الحياة واليوم أنا معك في الختام">


كل شيءٍ في هذه الحياة قدره الله وفعل ما شاء..

حتى حياتنا بدأت بميعادٍ أراده الله، وانتهت بلحظةٍ كان قدرها الخالق، كأن كل يومٍ يمر علينا نمر بتاريخ الوداع دون انتباهٍ، لكن الألم لم يكن بموتنا نحن، الألم في وداعٍ لم نلحقه وفي قلوبٍ يأكلها الألم بعد الرحيل، خاصةً إن كانت تلك القلوب تأمل في الشفاء، فتفيق على فاجعة الرحيل..


كل شيءٍ هُنا في غير نصابه الصحيح، هي نفسها مُبعثرة كأنها لم تترتب ذات يومٍ، الكل هنا يساعد ويعاون والناس يتحركون من حولها وهي وحدها من تقف هكذا تتابع بعينيها حركة الحياة وهي الراكدة فيها، فاجعة موت والدها صفعتها بغير إنذارٍ..


هرول تجاهها "طـاهر" رفيقه حين لمحها تقف بجوار عربة نقل الموتى ثم ضم يدها في يده وهو يقول بصوتٍ أقرب للبكاء:


_"نـوف" تعالي يا حبيبتي اركبي العربية، هتفضلي لوحدك كدا؟.


كانت بين الجميع تائهة، جسدها حاضرٌ وروحها كأنها غادرت مع من غادر الحياة، دارت بعينيها كأنها تبحث عنه هو، تبحث عن من رحل كي تأخذ منه الإذن في الرحيل مع رفيقه، بحثت بعينيها عنه ولتوها أدركت أن هذا الحشد الذي يقف هنا…أتوا لأجل تقديم العزاء فيه هو، فيمن؟ في من تبحث هي عنه بين الجميع، بكت دون أن تدري وسألته بصوتٍ مستنكرٍ:


_هو مات بجد يا عمو "طـاهر" ومشي؟.


سؤالها كان سوطًا فوق قلب الرفيق الذي بكى دون أن يشعر بنفسه، أما هي ففقدت ثباتها وقوتها حين أدركت أنه رحل بالفعلِ فصرخت وبكت وظلت تُناديه والأعين بأكملها تلتقطها هي ونظرات الشفقة ترميها بسهامٍ قاتلة لعزيز النفسِ، اقتربت منها أمها تساندها وتضمها لصدرها فتمسكت بها صغيرتها وهي تصرخ وترجوها أن تذهب معه..


كل القلوب في هذه اللحظة وقفت تصرخ والجميع هنا يلعنون قسوة الفراق ألف مرةٍ، فراق مثل هذا لا يستحق سوى اللعن والنفور منه، رغم أنها إرادة الخالق ومشيئته لكن القلوب حين تتألم يصعب عليها التأقلم، والتأقلم مع الفقد لا يأتي إلا بعد موتٍ الحياة فينا.


رحلت السيارات خلف سيارة تكريم الموتى يشقون الطريق نحو المقابر الخاصة بمدفن العائلة، كان "طـاهر" يقود السيارة باكيًا خلف رفيق عمره، بينما أسرته فكانت معه بذات السيارة كأنهم معه حتى الرمق الأخير في حياتهم معه، ارتمت "نـوف" على خشبته تحتضنه وهي تبكي، بينما شقيقتها فكانت في حالة صدمة وانكارٍ لم تُصدق أنه تركها وحدها قبل أن يكتمل الطريق معه..


بعد مرور دقائق تم إخراج جثمانه ووضعه بداخل اللحد وحينها بدأت حالة التيه والألم على الفقيد، التراب يواري جسده ويفصل بينهم وبينه، يتم وضعه بداخل قبره والموت الحقيقي في قلوبٍ تحرقها نيران الفقد، وقفت زوجته باكيةً وهي تودعه بكل حديثٍ وكلماتٍ وصراخٍ وقهرٍ وابنتيها في عناقها يتمسكن بها ويقتبسن منها الحماية وكأنهم وسط العالم بغير ساترٍ..


بينما "طـاهر" فهو الذي أنزل رفيقه للقبر بنفسه مع رجال عائلته لكن يبدو أنه ترك قلبه بجوار الفقيد، لذا وقف يرمق الجثمان بوداعٍ أخيرًا وهو يتمنى اللقاء في جنة الخُلد بأمر الخالق الذي كتب لهما اللقاء فوق أرضٍ زائلة، وهذا أمر ليس بصعبٍ على خالقٍ أتصف بالرحمةِ لعباده..


فيا رفيقٌ كان لي عونًا طوال الطريق..

أخبرني كيف لي أن أجد بين الناس خِلًا غيرك 

وأنتَ يا عزيزي خير الصديق، اليوم أقف وحدي 

بنصفٍ مني، ونصفي الآخر كأنه غادر الطريق،

فغدوت بين أسى الأيام أواجه وحدي، 

وأيامي خلت بكل قسوتها من الرفيق..

____________________________________


 <"الخطأ الواحد قد يؤدي إلى سلسلة متكاملة لن تُصلَّح">


بعض الطُرق تبدأ بخطأٍ لا يُمكن أن يُصلح..

كأنها سلسة متكاملة بمجرد أن تقع في الخطأ الأول منها قد تتوالى عليك الأخطاء بغير هوادةٍ ولا تصليحٍ، فعليك التفكير جيدًا قبل كل خطوةٍ تخطوها فترمي إليك إلى الخطأ التالي..


لازالت في مكتبها لم تتركه، الشتاء ازداد برودة وقسوة، رائحة المطر في الخارج تداعب أنفها وهي ترغب في الخروج من هنا والركض في الطرقات كما الحُرة الطليقة، تحتاج لوصف اسمها كي ترتاح قليلًا، هي "رحـمة" ونصيبها في الحياة كان كله قسوة، هربت من الحياة التي تضربها كل يومٍ حتى تصبح هي من توجه الضربات..


تحركت "رحمة" تقف عند شرفة مكتبها المُطلة على نهر النيل بواحدةٍ من أكثر المناطق الشهيرة بالثراء، كانت تبتسم لرائحة الشتاء وهي تداعب أنفها وتذكرها بمسقط رأسها، حيث الإسكندرية الحبيبة وبحرها وهواها، رغم اعتيادها على القاهرة بكل شيءٍ هنا، لكن الحنين للأسكندرية الحبيبة يُغالبها، لذا قامت بإغلاق العازل وفردت خصلاتها البُنية التي حررتها من حجابها ثم خلعت حذاء قدميها ووقفت بشرفة مكتبها كفتاةٍ حالمة تنتظر فارسها، لكن هنا في حالتها هي تنتظره كي تقتله..!!.


قانون الحياة لديها لخصته في عبارتين تعمل طوال حياتها لأجل تطبيقهما؛ حيث "لا حياة مع الرجالِ، لا حياة للرجالِ" والكُل منهم سوف يأتيه يومه تحت يديها بغير رحمةٍ منها، جميعهم يستحقون القسوة، أصبحت تنتشي بمظهر وجعهم وحرقة قلوبهم حين يُصدر القانون حُكمًا ضد أيًا منهم، واليوم فريستها الجديدة سقطت في يديها وهي تنتظر لحظة الوقوع..


عادت تستقر فوق المكتب وتضع الحجاب وقد ولجت "لمياء" التي تعاونها في عملها وفي يدها ملفٌ تحمله وما إن ولجت لها قالت بثباتٍ وصوتٍ يغلب عليه الطابع العملي:


_أستاذة "رحمة" ورق قضية مدام "صابرين" أهو كله جاهز وفيه كل حاجة عن جوزها "سالم الإدريسي" بس آخر كام شهر مختفي تمامًا ومحدش يعرف عنه حاجة، ناس كتير بتقول إنه هرب وناس تانية بتقول غرق أخوه في فلوس وديون ومصايب وخلع، وآخر حاجة بقى عرفتها إنه هربان بعدما عرف إن مراته رافعة قضية عليه علشان الحضانة والنفقة، كل حاجة عندك.


سحبت منها الملف تقرأ كل كلمةٍ به، تطابق الحالتين بين الزوج الذي يستحق القتل وبين زوجةٍ لا تستحق إلا التقدير كونها تحملت غدره بها وما فعله فيها وفي صغاره، الحياة لم تكن رحيمة مع النساء، هذا المجتمع يستحق القسوة من كل الأطراف هُنا، الحياة بسلامٍ لم تُكتب في مجتمعنا للنساء، لذا أغلقت الملف وقالت بحنقٍ من بين أسنانها:


_يا أنا يا هو "سالم" دا وربنا لأخليه يترمي في السجن.


انتبهت لها مساعدتها فسألتها باهتمامٍ عن سبب اهتمامها بتلك القضية تحديدًا، فقالت هي بحقدٍ ونفورٍ ومقتٍ منه:


_علشان ميستاهلش يعيش معاها، راجل خاين وكداب ومش بس كدا، دا لما هي كشفته على حقيقته لفق ليها رسايل وصور مع واحد تاني وقال إنها في علاقة معاه، أبسط دليل هقدمه في المحكمة هقول إنه بيتغيب عن الجلسات، مش بيدفع نفقة ولا حتى وثق الطلاق بشكل رسمي، والأكيد غيابه عن شغله وعمله بشهادة الناس، أنا هخليه يرجع زاحف ومش هيلمح ضُفر من عيل واحد فيهم.


كانت عزيمتها ارتفعت للسماء، أصبحت تلك القضية شخصية لها وكأنها تخصها هي، هذا الرجل لن ترحمه هي ولن تجعل الراحة تعرف طريقه، سوف يلقى على يديها عذابًا أكيدًا ولن يجد عونًا له، أخذت القرار وأقسمت بعذابه وهي لن ترجع في قرارٍ أخذته، والآن هي تقوم بتجهيز أسلحتها الباترة كي تقوم بقطع عنقه للأبدِ..


في مكان آخرٍ أوقف "سُليمان" سيارته بعدما قادها بتهورٍ، متعته حين يتألم قلبه أن يترك نفسه لجنون الطريق لعل لحظته تحضر ويموت، جلس ينظم أنفاسه قبل أن تكشفه أمه ثم نزل من السيارة يُهندم ثيابه وهيئته، وبعد دقائق ولج البناية الفاخرة وقصد شقة والدته التي كانت تجهزت بالفعلِ وجلست تنتظره، وبمجرد أن ولج لها قالت بلهفةٍ:


_لسه جاي دلوقتي؟ أنا قولتلك عاوزين نلحق علشان المركز بيقفل بدري في الشتا، مش هتلحق كدا تاخد "سليم" و "سدرة" خليهم هنا وخلاص.


تركها وتحرك يبحث عن الصِغار فوجدهما بغرفة والدهما المُمدد فوق الفراش والأجهزة موصولة بجسدهِ من كل مكانٍ، وقف بخزيٍ وقهرٍ وهو يراقب شقيقه الأكبر بعينين دامعتين، الآن يحتاجه أكثر من أي وقتٍ آخر، اعتاد طوال عمره أن يهرب إليه ويرتمي عليه، لكن في هذه الحالة كلما رآه هكذا شعر بالقهرِ والعجزِ، ابتلع الغصة التي في حلقه ثم ولج يقف بقرب الفراش فالتفت له الصغير صاحب الثمانِ أعوامٍ وقال بصوتٍ باكٍ:


_هو بابا مش هيصحى يا عمو "سليمان" خالص؟.


تنهد هو بقوةٍ ثم مال عليه وقال بصوتٍ مبحوحٍ بان فيه كتمه لمشاعره المتألمة:


_هيصحى أكيد، هو روحوا فيكم أنتوا، أدعيله يا "سليم".


اقتربت الصغيرة منه تمسك ساقه فحملها هو يربت فوق ظهرها وخصلاتها ثم مسح فوق عينيها وقال بسمةٍ حنونة:


_إحنا اتفقنا على إيه؟ مش هنعيط وهندعي ربنا يطمن قلوبنا عليه ويرجعه من تاني وسطنا زي الأول وأحسن، عاوزكم بس تخلوا بالكم من نفسكم علشان لما يصحى مايبقاش زعلان، توعدوني؟.


وعده الصغيران بنظراتهما، بينما هو فثبت عينيه على شقيقه وأراد منه أن يقطع الوعد هو الآخر له، أراد أن يُطمئنه ويخبره أن الوقت لن يمر قبل أن يفيق ويعود للحياة من جديد، لكنه كان يأمل أن الله يكون بسر قلبه عليمًا ويُنعم على شقيقه بالعودةِ، وقد ولجت أمه عليه تراه مع الصغار، فخطت نحو ابنها البكري ثم مالت عليه تُلثم جبينه فهرع الدمع من عينيها على جبينه كأنها قطرة حبرٍ توثق بها خطاب شوقها له ولوعة قلبها عليه..

هذا الذي يُنصب لأجله الفخ، يصارع الموت هُنا..

____________________________________


     <"كنت خير الأمل لقلبي، وقلبي يحيا بأمله فيك">


لا حياة بدون أملٍ، ولا طريقٍ بغير مشقةٍ، ولا قلوبٍ بغير حُلمٍ..

كلها متلازمات لا تفترق، كأن النصف يحتاج للنصف حتى يكتمل الواحد الصحيح، ورغم تنوع المتلازمات وتغير الكلمات سوف تجد برهانًا قويًا على احتياج كلًا منهما للآخر..


كان يقف في مطبخ البيت يقوم بتحضير وجبة العشاء بعد أن تأخر شقيقه "المتحذلق" كما يصفه هو، لقد تألمت معدته من الجوع بسبب تأخره ولازال غائبًا في الخارج لم يعد، عقابه سيكون قاسيًا، سوف يحرمه من وجبته المُفضلة ويمنع عنه بعض المكونات البحرية التي يحبها، سوف يقوم بتأجيل الوجبة بأكملها للغدِ واليوم سوف يتناول الوجبة المعتادة الرسمية، معكرونة بقطع الدجاج وهذا هو العقاب القاسي لأمثال شقيقه.


قام بتنظيف المطبخ بعد أن أنهى تحضير الطعام ثم التقط صحنًا لنفسه يتناول منه حتى لا يموت جوعًا بسبب أخيه، وقد صدح صوت هاتفه فجاوب بعدما ابتلع الطعام ليجد عمته تقول بلهفةٍ:


_تعالى بسرعة أخوك جاي في الطريق، عندنا مكرونة بشاميل.


_الله يباركلك يا "روبي" جايلك هوا.


ترك "آدم" موضعه وأخذ الصحن معه ثم نزل من الشقة لشقة عمته التي تقطن معهما بذات البناية وقد ولج لها بالصحن في يده وهو يقول بنبرةٍ ضاحكة:


_خدي المكرونة أم صلصة وهاتيلي البشاميل.


ضربته فوق يده فيما خرج زوجها يضحك بقوله:


_استنى يا حلو، أخوك مش هنا ومحدش فينا هيقدر يقرب.


زفر "آدم" بقنوطٍ وظل يلعن شقيقه الذي أفسد عليه مُتع يومه، وبعد دقائق حضر "أدهم" يحمل قوالب الحلوى المفضلة للجميع بعد أن دعته عمته لتناول الطعام معهم، وما إن ولج وجلس على المائدة سأله زوج عمته بحنوٍ:


_طمني عملت إيه؟ خلصت مع "عبدالحق" في المحلات؟.


ابتسم له وحرك رأسه موافقًا فربت الآخر فوق كفه مستحسنًا صنعه وفعله، وقد التفت "آدم" يبحث بعينيه عنها فلم يجدها وحينها سأل بتعجبٍ:


_هي فين "ورد" مش المفروض تيجي تقضي الخميس هنا؟.


زفرت أمها وقالت بانفعالٍ وغضبٍ فشلت في كتمه:


_متفكرنيش علشان أنا على أخري من بنتي وأبوها الله يكرمك، قال إيه قالت مش هينفع أخرج وأبات برة البيت وجوزي برة، الأصول بتقول أفضل في بيتي، وأبوها وافقها، مش أنتَ أخوها؟ شوفلك حل معاها بقى أنا تعبت، وقولتلها حماتك مش سهلة، لو وافقتيها مرة على حاجة هتخليكِ تحت رجليها العمر كله.


تدخل "عرفه" زوجها يقول بتأنيبٍ واضحٍ في صوته وكلماته:


_يا "ربـاب" الله يكرمك مش وقته، البت عاقلة ودماغها أكبر من سنها، مش عاوزين حد يتكلم ولا يجيب سيرتها، الأحسن تفضل في بيتها وإحنا نروح لحد عندها، أقولك؟ روحي أقعدي معاها أسبوع وونسيها، على الأقل علشان حماها العاجز دا.


رفعت حاجبها وهي تقول خلفه باستنكارٍ جلي:


_أنتَ عاوزني أروح أقعد في بيت "خيرية" علشان تاكل وشي؟ لأ طبعًا دا مستحيل، وأنا لو ساكتة فعلشان بنتي بتحب ابنها وأنا عارفة إنه بيحبها غير كدا والله كنت خربت الجوازة دي من أولها.


تدخل "آدم" يرد على عمته بقوله الحكيم:


_أنتِ قولتي أهوه هو بيحبها وهي بتحبه خلاص، بعدين هي بتعرف تتحمل وتاخد قراراتها كويس، أنا بس اعتراضي على وجود "خلف" هناك، سمعته زباله وواد شمام ودا اللي مخليني عاوزها تيجي هنا، بس طالما دي أصول خلاص مش هنقدر نتكلم، وأختي أنا أعرف أجيب حقها كويس.


تنهدت عمته ثم انتبهت لصمت "أدهـم" طوال الجلسةِ فقالت بلهفةٍ لأجله كأنها تقلق عليه حتى من مجرد الصمت:


_مالك يا حبيبي؟ فيه حاجة مزعلاك؟.


رفع عينيه لها وحرك رأسه نفيًا ببسمةٍ كاذبة، فكيف يخبرها أن اليوم ذكرى مولد جرحه الأعظم والأكبر في حياته؟ كيف يخبرها أن اليوم كان كما الجندي العائد من الحرب لأجل موطنه، فوجد موطنه يضعه في مكانة الخائن ويعلن عليه الحرب الأبدية، عانق الصمت وتناول الطعام في هدوءٍ إلا أن صدح صوت جرس الباب فتحركت عمته تفتحه لتجد أمامها ابنة شقيقها الثاني وهي تقول ببسمةٍ شقية:


_دي تورتة عيد جوازي، لازم تدوقيها.


ابتسمت لها عمتها وهي تلتقط الطبق منها وقالت بعد زفرة طويلة يائسة كأنها تسير بين نارين:


_ألف مبروك يا حبيبتي وربنا يسعدك وعقبال ما نشيل عوضك يا رب، عقبال ما ناكل يوم ما تعملي لابنك أو بنتك، تعالي اتفضلي.


ولجت الفتاة وهي تضحك بسعادةٍ لكن بمجرد أن لمحته يجلس على الطاولةِ ارتبكت في الحال، حتى ظهر ذلك في صوتها وهي تلقي التحية، فلم يجاوب الشقيقان عليها، خاصةً أن "آدم" صاحب النصيب الأكبر في العداء معها، بينما هي التفتت تقول لعمتها وهي تهرب من المكان:


_عن إذنك يا عمتو هنزل علشان "حلمي" جاي ويدوب أتحرك.


وافقت عمتها وتركتها تنسلت كما قبضة المياه من بين الأنامل، بينما هي بمجرد أن خرجت التقطت أنفاسها واستعادت ثباتها ثم نزلت لشقة والدها تختفي فيها بعد أن جمعها معه نفس المكان الذي سبق وشهد على كل ذكرى؛ تحولت لنقمة وأشواكٍ تجرح القلب وتؤلم عند النطق بها الحلق..

____________________________________


 <"لولا الخيال واتساعه لما كنتُ صمدت في هذا الضيق">


المسكين مثلنا الذي يحلم بحياةٍ هادئة قد تضيق عليه الأرض بأكملها ويصبح حلمه في السلام شيئًا من قبيل الأمنيات، كأن السلام بشيءٍ عظيمٍ يصعب للأيام أن تهديه لأي شخصٍ وإن كان عابرٍ في هذه الدُنيا، لذا نرمي أنفسنا للخيال، نعانق المستحيل، نضم بين أذرعنا كل ماهو فلَّ عن طريقنا وأصبح اللقاء معه معدومًا..


اليوم هي تستحق أن تُكافيء نفسها، لقد أنهت كل المناوبات في عملها وحدها، تحملت بعض الأعمال الزائدة عند الحدِ ورضيت بها، خرجت من المشفى أخيرًا ومعها يومٌ بأكمله عطلة سوف تُدلل نفسها به في شوارع الأسكندرية، لكن اليوم سوف تُنيه في عناق جدتها، سوف تدفن نفسها به وتقضي الليل حتى صباح اليوم الموالي، يكفيها هذا التعب طوال الأسبوع المُنصرم..


مرت على أحد المحلات التجارية الشهيرة ببيع الحلوى وقامت بشراء عُلب الحلوان المفضل منها، علبة لشقة عمها، والعلبة الثانية لعمها الثاني، وعلبة لشقة عمتها، وعلبة لها ولجدتها معها، ها هي تقترب من بيت العائلة المظلم ومن المؤكد جميع سكانه ناموا بسبب هذا البرد القاسي، تغيبت عن البيت منذ ثلاث أيامٍ وليلتين وها هي تعود..


حاولت فتح بوابة البيت الحديدية المتهالكة لكن الباب لم يُفتح قط، حاولت مرة وثانية وثالثة حتى يأست فرفعت صوتها تنادي على أصحاب البيت، ظلت تنادي وترفع صوتها حتى بدأوا الجيران يفتحون الأبواب والشُرفات والنوافذ وهي تطرق الباب بقدر استطاعتها وقدرتها، فاقترب منها سيدة بدينة الجسد تسير بإنعواجٍ وهي تقول بصوتٍ أعرب عن الشفقةِ:


_يا بنتي دول بقالهم يومين سايبين البيت، باعوه ومشيوا محدش عارف ليهم طريق، أنتِ كنتِ فين بس كل دا؟.


هوى فؤادها أرضًا والتفتت تراقب البيت لوهلةٍ ثم عادت للمرأةِ بخطواتٍ مُشتتة ضائعة وهي تقول بصوتٍ أقرب للبكاء كأنها فتاة صغيرة تاهت في الطريق من والديها:


_أنتِ متأكدة يا حجَّة من كلامك؟ باعوه إزاي؟ وجدتي فين؟ الست الكبيرة صاحبة البيت فين؟ باعوه لمين وراحوا فين؟.


تحول حديثها لصراخٍ بقهرٍ وهي تلتف وسط الناس والجيران، تقف بينهم عارية وكأن العالم بأكمله يتكالب على النساء وخاصةً الضعيفات مثلها، وهي فتاة وحدها ضعيفة تجابه من الحروب جيوشًا، وكأنها فراشة صغيرة أمام غابة وحوشٍ.

#يُتَبَع

رواية جمعية حب الفصل الثالث 3 من هنا

رواية جمعية حب كاملة من هنا

روايات الخلاصة ✨🪶♥️
روايات الخلاصة ✨🪶♥️
تعليقات